الريادة فى أى شئ مستويات فأنت قد تبدأ شيئا جديدا فى جامعتك مثلا ولكنه موجود فى جامعات أخرى (كتخصص جديد أو قسم جديد أو مادة جديدة) أو تبدأ شيئا جديدا فى بلدك لم يكن موجودا (مثل إنشاء الجامعة المصرية مثلا أو الجامعة الأهلية) وإن كانت توجد فى بلدان أخرى أو قد تنشئ علما جديدا لم يكن موجودا من قبل على المستوى العالمى مثل نيوتن وليبنز وعلم التفاضل والتكامل أو بور وهايزنبرج وديراك وبورن وفاينمان وبولى وشرودنجر وريادتهم لعلم ميكانيكا الكم، وهكذا.. إذا تريد أمثلة كثيرة على الريادة فى المجال العلمى فما عليك إلا أن تتابع من يحصلون على جوائز نوبل كل عام كمثال!
الريادة تستلزم عدة أشياء بجانب العلم، فلكى تبدأ شيئاً جديداً يجب أن تمتلك العلم طبعاً و يجب أن تكون مقتنعاً بأهميته للمكان الذى تنشئه فيه لأنك إن لم تكن مقتنعاً فأنت تفعله فقط من باب الفخر أنك رائد فى شيء! أيضاً يجب أن تمتلك عقلية إدارية و قدرة على الإقناع لإنشاء هذا الشئ الجديد لأن الناس غالباً تخشى التغيير و تقاوم ما ينافى ما إعتادت عليه، هذا طبعا بالإضافة إلى المثابرة و عدم اليأس خاصة إذا كان الشئ الجديد صعب المنال أو فى بيئة نامية و ليست متقدمة بالقدر الكافى ... وهذا ينقلنا إلى الحديث عن أحد الرواد ليس فى مصر وحدها بل وفى الوطن العربى كله.
الدكتور أحمد مصطفى أبو زيد من رواد علم الأنثروبولوجيا (بتلخيص مخل: علم الإنسان) فى العالم العربى، لنبدأ الرحلة من أولها: ولد الدكتور أحمد مصطفى أبو زيد فى مايو من العام 1921 في الإسكندرية وتلقى تعليمه الإبتدائى و الثانوى بمدرسة رأس التين ثم حصل على ليسانس الأداب من جامعة عين شمس عام 1944 وأتم الدراسات العليا في أكسفورد بإنجلترا و عاد حاملاً الدكتوراه عام 1956.
الدكتور أبوزيد لم يكتف في أبحاثه بالعمل النظرى وفقط بل بذل مجهوداً جباراً في العمل الميدانى وهذا يدلنا على مدى حبه وتفانية في علمه لأنه كان من الممكن أن ينشر أعماله النظرية ويترقى في عمله الجامعى وكفى، ولكن عمله الميدانى الشاق (مثلاً قضى 13 شهراً في الواحات في دراسة ميدانية!) معناه أنه يريد ربط النظرية بالواقع ثم يطبق ذلك لتحسين حياة الناس، هكذا يكون العلم وهكذا يكون العالم، فدراساته الميدانية شملت مناطق عديدة من صعيد مصر والشرق الأوسط وشمال إفريقيا!
إذا تصفحنا بعض أبحاث الدكتور سنجد أننا نحتاجها الأن أكثر من أي وقت مضى، مثلاً له بحث منشور سنة 1975 بعنوان "إعادة بناء الإنسان المصرى" و بحث عن المجتمعات الصحراوية في مصر نشر سنة 1990 و عدة مقالات أنثروبولوجية جمعت في كتاب بعنوان "الطريق إلى المعرفة" سنة 2001 و كتاب سنة 2005 بعنوان "المعرفة و صناعة المستقبل" و كل هذا قليل من كثير نشره الدكتور و نحتاجه الأن في عصرنا أكثر من أي وقت مضى.
دعنا نركز قليلاً على إنجازاته الإدارية حتى نتيقن أنه لم يكن يبحث عن المناصب وإنما كان يستعملها كأداة لنشر رسالته العلمية، فمثلاً عقد اتفاقية للتعاون الثقافي بين كلية الآداب بجامعة الإسكندرية ومركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة يوتا الأمريكية يتم بمقتضاها تبادل عدد من الأساتذة كما قام بعدد من الإتفاقيات لإيفاد الطلاب الأمريكيين المتخصصين في شئون الشرق الأوسط لتلقي مقررات عن الحضارة المصرية والثقافة العربية وغيرها في مصر وأداء الامتحان في الإسكندرية وعقد إتفاقية مماثلة مع معهد البوليتكنيك بوسط لندن (تم تغيير إسمه و تحويله لجامعة مستقلة بدءأً من العام 1992) وقد استمر العمل بهذه الاتفاقيات لعدة سنوات وحقق الدكتور أحمد أبو زيد هدفين من تلك الإتفاقيات: أولاً الإحتكاك مع الباحثين في الدول المتقدمة يساعد الباحثين في مصر على تطوير قدراتهم البحثية، أما الهدف الثانى فهو نشر الثقافة المصرية و العربية في العالم الغربى.
كما قلنا في بداية هذا المقال أن الريادة في شيء تستلزم بجانب المعرفة العلمية المقدرة الإدارية و في هذا المضمار تبوأ الدكتور أبو زيد الكثير من المناصب الإدارية وقد ساعده ذلك على إرساء قواعد علم الأنثروبولوجيا إدارياً كما أرساه علميا من خلال عمله كأستاذ جامعى، على المستوى الإدارى أصبح عميداً لكلية الأداب بجامعة الإسكندرية من العام 1976 و حتى العام 1979 وقبل ذلك كان رئيساً لقسم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة من عام 1972 و حتى 1974، وعلى المستوى العربى فقد عمل الدكتور في جامعات ليبيا و الكويت (أنشأ قسم الاجتماع بجامعة الكويت) و أستاذاً زائراً في بعض جامعات إنجلترا و أمريكا بالإضافة إلى إشرافه على مجلة عالم الفكر الكويتية وعمله كخبير في مكتب العمل الدولي بالأمم المتحدة، وقد ساعدته كل هذه المناصب الإدارية في إرساء قواعد علم الأنثروبولوجيا في الوطن العربى كعلم مهم و بيان كيفية ربطه بالحياة اليومية فقد أنشأ قسم الأنثروبولوجيا بجامعة الإسكندرية وكان هو القسم الوحيد من نوعه في كل جامعات الشرق الأوسط وقد تخرج منه معظم أساتذة الأنثروبولوجيا في العالم العربي الأن!
يمكن أن نقول وبدون مبالغة أن الدكتور أحمد أبوزيد هو عن حق مؤسس علم الإنسان العربى
نتيجة لكل ذلك فقد حصل الدكتور أحمد مصطفى أبو زيد على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1993 و جائزة النيل للعلوم الاجتماعية عام 2011 وإن كانت هذه الجوائز لا توفيه حقه ولكن إنتفاعنا بعلمه هو ما يوفيه حقه.
رحم الله الدكتور أحمد أبو زيد الذى ترجل عن مئات الأبحاث و عشرات الكتب المؤلفة والمترجمة في 29 يوليو من العام 2013.