فى مقالنا الأسبوعى منذ عام 2016 وحتى الآن نتحدث فى موضوعات ثلاثة: تاريخ العلوم والحياة الأكاديمية والتكنولوجيا. قد تبدو الموضوعات الثلاثة غير مترابطة، لكن العكس هو الصحيح. التكنولوجيا التى نعيشها هى نتاج تاريخ طويل من البحث العلمى وتحويله إلى تكنولوجيا ومن هنا فإن تاريخ العلوم يعطينا نبذة عما حدث وكيف حدث وماذا يمكن أن يحدث فى المستقبل (وهذه همسة أخرى عن أهمية علم المستقبليات). البحث العلمى يترعرع فى الجامعات ومعامل الأبحاث فى الشركات ومعامل الأبحاث الحكومية فى بعض الدول. كاتب هذه السطور متخصص فى تصميم الحاسبات ويعمل بالجامعة لذلك فالحديث عن الحياة الأكاديمية له علاقة وثيقة بالعلم والتكنولوجيا وأيضا التعليم الذى هو قاطرة كل شىء.
فى مقالنا اليوم سنتحدث عن أهم اختراع تكنولوجى فى المائة عام الأخيرة وهو جهاز الكمبيوتر، هو يسيطر على حياتنا حرفيا، لاحظ أن برمجيات الذكاء الاصطناعى مثلا (موضة هذا العصر) لم تكن لترى النور دون أجهزة الكمبيوتر. الهدف من مقال اليوم هو التعرف عن قرب عن هذا الاختراع وأشكاله وكيف نستفيد منه، وقد تجد بعض المفاجآت أيضا.
أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نذكر كلمة الكمبيوتر هو جهاز اللابتوب الذى تعمل عليه. إذا جمعنا أعداد أجهزة الكمبيوتر فى العالم فالأقل عددا هى أجهزة اللابتوب. تليفونك المحمول هو جهاز كمبيوتر، ساعة يدك فى الأغلب هى جهاز كمبيوتر، أجهزة التابلت هى أجهزة كمبيوتر، عندما تقوم بخدمات حكومية أونلاين أو تستخدم مواقع التواصل الاجتماعى فإنك تستخدم أجهزة كمبيوتر عملاقة مستترة وراء الإنترنت. هناك أجهزة كمبيوتر أخرى حولنا فى كل مكان لذلك تعتبر أجهزة الكمبيوتر حجر الأساس للثورة الصناعية الرابعة، بل والخامسة، وهذا يقودنا إلى سؤال مهم: لماذا يجب أن نعرف بعض المعلومات عن الكمبيوتر، ألا يكفى أننا نستخدمه؟
معرفة أشكال أجهزة الكمبيوتر وطرق عملها له الكثير من الفوائد وليس من قبيل الرفاهية العلمية:
تجعلنا نعرف نقاط قوة وضعف الأشكال المختلفة لأجهزة الكمبيوتر.
تساعدنا على اختيار أفضل الأجهزة للمهمات المختلفة (ولا أقصد: «عايز أشترى لابتوب تنصحى بإيه؟»).
تساعدنا على تصميم مناهج دراسية فى المدارس والجامعات تواكب التطور وتساهم فيه.
فى أبسط تعريف له فإن جهاز الكمبيوتر هو جهاز ينفذ أوامر تُعطى له فى هيئة برمجيات (الذكاء الاصطناعى هو فى النهاية نوع من البرمجيات). هذا التعريف يثير سؤالا مهما.
...
ماذا نريد من أجهزة الكمبيوتر؟ قد يبدو هذا السؤال بسيطا لكن الإجابة ليست بهذه السهولة.
نريد من جهاز الكمبيوتر أن ينفذ أوامر تلك البرمجيات بطريقة صحيحة. غالبا هذه هى الإجابة التى فكرت أنت فيها عندما طرحنا السؤال أعلاه، لكن هناك المزيد.
نريد من جهاز الكمبيوتر أن يستهلك طاقة قليلة، فأنت لن تكون مسرورا ببرنامج على تليفونك المحمول يستهلك البطارية فى وقت قليل، وأيضا لا تريد الشركات الكبرى أن تستخدم أجهزة كمبيوتر عملاقة تستهلك طاقة كبيرة تتحول إلى فاتورة كهرباء باهظة.
نريد جهاز كمبيوتر لا يعطل، أو يعطل فى أقل الحدود لأن الأعطال قد تتسبب فى مصائب، تخيل جهاز كمبيوتر مستخدم فى غرفة العلميات فى مستشفى أو فى أثناء الحروب أو الأجهزة المتحكمة فى الخدمات الحكومية (السيستم واقع).
نريد جهازا يصعب اختراقه. نحن فى عصر أجهزة الكمبيوتر فيه تتحكم فى كل مناحى الحياة وتخزن بيانات كل شىء. اختراق تلك الأجهزة قد يتحول إلى كارثة. الحرب العالمية الثالثة ستكون حربا سيبرانية أى أن ميدان القتال سيكون الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بها.
وأخيرا نريد تقليل التكاليف أى أننا نريد كلما ما سبق وبأقل الأسعار.
فيما عدا البند الأول فى القائمة أعلاه فترتيب البنود التالية يعتمد على استخدام الأجهزة، فمثلاً لأجهزة اللابتوب العادية بند التكلفة قد يأتى فى مركز متقدم فى حين أن أجهزة الكمبيوتر المستخدمة فى الجيوش الأعطال والتأمين أهم من التكلفة.
هذا يقودنا إلى نقطة غاية فى الأهمية: حتى نستخدم أجهزة الكمبيوتر بكفاءة نحتاج إلى مبرمجين على مستوى مرتفع، لنتكلم قليلاً عن البرمجة.
...
تعريف البرمجة فى أبسط صورها هى إعطاء أوامر لأجهزة الكمبيوتر عن طريق لغات برمجة معينة. هذا التعريف البسيط يقودنا إلى أسئلة أكثر صعوبة:
هل تختلف البرمجة حسب نوع جهاز الكمبيوتر؟ مثلاً هل كتبة برنامج للتليفون المحمول مثلها مثل أجهزة الكمبيوتر العملاقة التى تدير مواقع التواصل الاجتماعى؟ أو تلك الموجودة فى المستشفيات؟
ما هو مستقبل البرمجة فى عصر برمجيات الذكاء الاصطناعى مثل ChatGPT وGemini وBard إلخ؟
المبرمج يمكنه إعطاء نفس الأوامر للكمبيوتر بطرق مختلفة وبلغات برمجة مختلفة، المبرمج لأجهزة التليفون المحمول يهمه استهلاك الطاقة ثم السرعة لأن مستخدم التليفون المحمول يهمه ألا يضطر لشحن التليفون بعد وقت قصير. المبرمج للأجهزة العملاقة يهمه السرعة، ثم العمل دون أعطال، ثم استهلاك الطاقة. استهلاك الطاقة والأعطال إلخ هى ليست فقط مهمة مصمم أجهزة الكمبيوتر لكن للمبرمج يد فيها.
يجب ألا ننسى فى خضم كل تلك التفاصيل أن الكمبيوتر هو أداة فى النهاية، أى أننا نستخدمه لحل مشكلة. الخطوة الأولى لحل المشكلة هى إيجاد خطوات الحل بأفضل كفاءة ممكنة، فأى مشكلة يمكن حلها بعدة طرق بعضها أفضل من الآخر واختيار أفضل الحلول يحتاج خبرة وتفكير. الخطوة الثانية هى تحويل خطوات الحل إلى برنامج كمبيوتر. الخطوة الثانية هذه هى ما ستتغير نتيجة وجود برمجيات الذكاء الاصطناعى التوليدى (لأنها تولد محتوى) مثل chatGPT، سيكون بمقدور المبرمج إعطاء أوامر لتلك البرمجيات لتوليد برامج أو أجزاء من برامج، ثم يقوم المبرمج بمراجعتها وقد يطلب بعض التعديلات، كلما تطورت برمجيات الذكاء الاصطناعى تلك كلما تغيرت مهنة البرمجة.
بعد هذه الرحلة السريعة فى تعريف أجهزة الكمبيوتر بأنواعها وبرمجتها، ماذا علينا أن نفعل فى مصر حتى لا تتركنا الثورات الصناعية وتمضى؟
...
يجب أن نضع فى اعتبارنا عدة أشياء:
يجب ألا ننساق وراء الموضة، نعترف أن الذكاء الاصطناعى انتشر كالنار فى الهشيم، فهل معنى ذلك أن يكون كل خريجينا من هذا التخصص؟ إذا حدث ذلك سنفشل فشلاً ذريعاً لأننا نحتاج متخصصين فى الأمن السيبرانى ومتخصصين فى تصميم أجهزة الكمبيوتر وآخرين فى تصميم البرمجيات إلخ.
الزراعة والصحة وتحلية مياه البحر أولوية عندنا، فهل فكرنا كيف نستفيد من أجهزة الكمبيوتر بمختلف أشكالها وبرمجياتها فى تلك المجالات؟
هل نحن مستعدون لتصميم رقائق الكمبيوتر التى هى من أهم القطع فى جهاز الكمبيوتر؟
هل مناهجنا الدراسية تواكب التطور؟ أم فقط نضع أسماء رنانة لمحتوى ضعيف؟
السياسة العلمية الصحيحة هى من أمضى الأسلحة فى هذا العصر.