قلق شديد يسود بين الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية فى العالم العربى، بسبب الأحداث الجارية فى سوريا وسقوط دمشق وتفتت الإقليم السورى. لا شك أن سقوط سوريا يمثل هولًا كارثيًا على العرب، لكن مهما عظم هذا الهول فإنه يظل أقل هولًا من مخاطر أكبر، ولعل حالة العرب كحالة رجل أصبح وقد شل ذراعه صدمة كبيرة وكرب عظيم، لكن الصدمة والكرب يزدادا هولًا عندما يُظهر الكشف الطبى أن الشلل سببه ورم خبيث فى المخ أثر على مراكز الحركة، وتتطور الصدمة أكثر عند اكتشاف أن السرطان الخبيث امتد وانتشر إلى باقى أعضاء الجسم.
إن ما يحدث فى سوريا هو عرض لمرض عضال متوطن فى العالم العربى، وقبل أن نستطرد علينا أن نفسر لفظ العالم العربى وهو لفظ حديث نسبيا وكان أهله يعتبرون أنفسهم رعايا للدولة الإسلامية، ومع الوهن الذى أصاب الدولة العثمانية منذ القرن الـ18 وبداية الأطماع الأوروبية فى الاستيلاء على أملاكها بدأ يظهر مصطلح الشرق الأدنى ليعبر عن منطقتنا، لأنه الأدنى لبريطانيا عن الشرق الأقصى الذى يضم الصين واليابان وهو الأبعد عن أوروبا، واختارت الولايات المتحدة لفظ الشرق الأوسط لأنه مثل منتصف الطريق إلى الشرق الأقصى.
الوطن العربى مصطلح بدأ يتردد مع الحرب العالمية الأولى عندما بدأ العرب يشعرون بهويتهم، ولعل الحركات القومية التى وحدت ألمانيا وإيطاليا كانت لها دور فى هذا الوعى مع شعور العرب بالقهر من الحكم العثمانى الظلامى، وحانت الفرصة بالوعود البريطانية للشريف حسين بتعيينه ملكا على العرب إن ثار ضد الحكم العثمانى.
بعد الخديعة التى أجهضت حلم المملكة العربية، وُضعت العروبة فى شكل مؤسسى بإنشاء جامعة الدول العربية، ويمكن القول أن حرب فلسطين كانت أول تجربة لحشد الجيوش العربية من أجل هدف عربى. وبعد قيام إسرائيل صارت القضية الفلسطينية هى العامل المجمع للعرب ومحل مزايدة الأنظمة على بعضها، ورغم دور الدول الإمبريالية فى قيام إسرائيل فإنها ضغطت من أجل تجمع العرب فى تحالف موحد ليس من أجل حماية أنفسهم من إسرائيل ولكن لحماية أنفسهم من الاتحاد السوفيتى والمد الشيوعى، فنزل أيزنهاور بمشروعه ونزلت بريطانيا بحلف بغداد وفى هذا الوقت تفجرت الثورات المضادة للإمبريالية.
مصر والعراق واليمن ثم فى ليبيا، ورفعت هذه الثورات شعار القومية العربية والوحدة إلا أنها أسهمت فى تقسيم العرب إلى معسكر ثورى تقدمى وآخر محافظ، واصطدم المعسكران صداما شديدا وصل إلى حد الحرب فى اليمن، ولعل المثير للعجب أن المعسكر الثورى الوحدوى انقسم على نفسه فى مواجهات وعداوات عنيفة، فمصر الناصرية التى رفعت شعار (حرية- اشتراكية- وحدة) وقفت بالمرصاد لحزب البعث الذى رفع شعار (وحدة –اشتراكية- حرية)! وحتى حزب البعث الذى رفع شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وقف القطران البعثيان- سوريا والعراق- فى حالة عداء شديد دفع صدام حسين إلى إعدام 25 من كبار قادة البعث العراقى فى عام 1979 فى واقعة قاعة الخلد بتهمة السعى إلى توحيد فرعى حزب البعث فى سوريا والعراق! القائد الوحيد الزعيم الملهم قضى على فكرة المؤسسية ولم يسمح لها بهامش ومساحة للحوار مع من اختلف مهما كان حجم الخلاف صغير.
الاستحواذ على السلطة خلق فراغًا هائلًا بسقوط صدام، والقذافى، وعلى عبدالله صالح، والبشير، أدى إلى صراعات دموية على السلطة قسمت البلاد ودمرتها. إن انفجار هذه الدول نال من قوة العرب وقدرتهم على الردع فاستباح العدو أراضينا ودماءنا، ولعلنا ننتبه إلى القواسم المشتركة بين هذه الدول، فهى أولًا دول الأنهار العربية الكبرى دجلة والفرات وبردى والعاصى والليطانين، ورغم أننا تداولنا فى أدبياتنا السياسية والإعلامية قضية حروب المياه إلا أننا لم نتحرك لنهب تركيا لمياه العراق ونهب إسرائيل لمياه لبنان ومن قبل استيلائها على مستودع المياه العذبة الكبير فى بحيرة طبرية وصولًا إلى تهديد مياه النيل فى مصر.
العنصر الثانى المشترك هو أن البلاد المتأثرة بالأحداث كلها بلاد منتجة لفائض الغذاء، ولعل السودان وحده قادر على إطعام العالم العربى كله، يضاف إليه الإمكانات الزراعية لبلاد الرافدين، وكانت سوريا من الدول التى تحقق فائضًا فى الغذاء، وحتى الصومال المنقسمة المتفائلة التى نسينا أنها عضو فى جامعة الدول العربية لديها ثروة حيوانية وسمكية كبيرة. أيضًا العراق وليبيا من كبار منتجى النفط كذلك سوريا والعراق كانا من أهم مصادر القوة العسكرية للعرب.
أخيرًا وليس آخرًا، الوزن المعنوى والتاريخى لهذه الدول؛ العراق وعاصمتها بغداد العاصمة العباسية للعرب، ودمشق العاصمة الأموية، والعمق التاريخى الذى تمثله الحضارة البابلية والحضارة الآشورية فى العراق وسوريا، والبعد الفينيقى للبنان، والبعد القرطاجى لليبيا، والسودان الوصلة بين العرب والأفارقة، واليمن مهد العروبة.
سمحنا لأعدائنا أن يهدموا أعمدة صرح العروبة عامودا تلو عامود ووقفنا نتفرج عاجزين غير قادرين على ضم الصف وتوحيد الجبهة أمام الخطر نسينا أننا حققنا نصر أكتوبر عندما توحدنا، وفى قمة نصرنا سلمنا أوراقنا كلها لأمريكا، صدمتنا فزاعة النكسة التى صورت لنا أن كل من يتحدى الإمبريالية مصيره الهلاك، ونسينا أننا صمدنا وتحدينا وانتصرنا عندما توفرت الإرادة، زادت الفزاعة هولًا بعد تدمير العراق وترسخت قناعة أن السلامة فى الخضوع للأمريكان وليس فى تلاحم بلادنا وشعوبنا، وهو العاصم لنا من المهالك.
استعرضت الداء الذى استشرى فى البدن العربى، فالداء بيّن والعلاج بيّن، ولكن من يكتب روشتة الدواء المر؟ فنحن لن نعيد اختراع العجلة، لكننا مُصرين على السير فى نفس الطريق الذى أدى بنا فى كل مرة إلى الهاوية.
عضو المجمع العلمى المصرى