تحسين الرؤية البصرية فى وسط القاهرة - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحسين الرؤية البصرية فى وسط القاهرة

نشر فى : الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 7:30 م

أسير متمهلا فى شارع قصر النيل، فى صباح يوم رائع من شهر نوفمبر، حيث الإضاءة الطبيعية فى هذا الوقت رائعة، وظهر لى بوضوح عدد من المبانى المعمرة، والتى يبدو عليها أنها طُليت حديثا. ثم وجدت أمامى لافتة صغيرة حول مبنى، مازال العمل فيه قائما، تطلب الابتعاد، وفى اللافتة اسم المشروع «تحسين الرؤية البصرية بمنطقة وسط القاهرة». دهشت قليلا لأن هذه - على ما أذكر - المرة الثالثة فى السنوات الخمس عشرة الماضية تقريبا التى يتم فيها دهان المبانى وتحسين اللافتات وأماكن أجهزة التكييف، وأحيانا زراعة بعض النخيل مع إعادة البلاط لبعض الأرصفة.
تذكرت مؤتمرا انعقد منذ سنوات قليلة لمناقشة التنقل فى القاهرة قام فيه أحد خبراء البنك الدولى بالتحدث فيه وعرض نتيجة بعض القياسات لجودة الهواء فى القاهرة، والتى تبلغ ربما أكثر من خمسة أضعاف المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية وخاصة لتلك الجسيمات الدقيقة العالقة فى الجو والناتجة - على الأرجح - من عوادم السيارات وتآكل إطاراتها نتيجة الاحتكاك المستمر بأسفلت الطرقات. ولأننى أركب دراجاتى كثيرا بجوار نهر النيل - فى الغالب - فأنا أتذكر جيدا المرتين اللتين قمت فيهما بركوب الدراجة فى وسط القاهرة (كانت إحداها لحضور مؤتمر التنقل)، وكيف أننى فوجئت برائحة الهواء الخانق المليئة برائحة العادم. ملاحظة، ركوب الدراجة يستلزم ما يسمى التنفس العميق والذى من الضرورى فيه أن يدخل الهواء إلى أعماق الرئة، وهو ما يجعله أكثر ضررا من المشى - مثلا - حيث التنفس فى الغالب سطحى ولكنه يظل ضارا.
تنبهنا دراسات صحية متعددة للتأثير الكبير لتلك الجسيمات على صحة الإنسان، والتى أتصور أنها أهم من رؤية المبانى التاريخية الجميلة لمدة أشهر قليلة بصورة بهية، لأنه بعد ذلك لن ترحمها تلك الجسيمات الدقيقة وهى التى تسمى - دارجا- بالهباب وستترسب على تلك الواجهات الجميلة حتى تعود لسابق حالها الباهت. ربما يتحسر الكثيرون مثلى حينها على ما أنفق فى تجميل لم يدم إلا قليلا.
• • •
أتساءل دائما لماذا لا نضع صحة الإنسان أولا، وهى فى الحقيقة مرتبطة بصحة البيئة لأن البيئة الطبيعية النظيفة والصحية تعنى أولا هواء نظيفا. لماذا إذن لا يكون استثمارنا ومجهودنا مركزا على تحسين جودة الهواء فى وسط القاهرة وأيضا فى المناطق الأخرى من المدينة؟، ولعمل ذلك يمكننا أن نتعلم من تجارب مدن أخرى مثل لندن و باريس. كما يمكننا أيضا أن نبتكر الحلول الخاصة بنا، والتى هى فى جزء منها حلول قائمة على الطبيعة مثل زراعة الأشجار (المصرية البرية الأصيلة وليس أى شجر)، ودعم النقل الجماعى خاصة المكهرب (من مصادر طاقة متجددة) ويمكن أيضا دعم سيارات الأجرة الكهربية التى تسير بكثرة فى وسط القاهرة. كما أن لدينا الآن التقنية والصناعة القادرة على تحويل سيارات الميكروباص إلى نقل كهربى.
يمكن أيضا للحدائق القريبة من وسط القاهرة، مثل حديقة الأزبكية وحديقة قصر عابدين وربما حدائق أخرى، أن تلعب دورا رئيسيا لو تحولت إلى ما يسمى الغابة الحضرية، وهى القادرة على امتصاص قدر أكبر من ثانى أكسيد الكربون وبث كمية أكبر من الأكسجين بالإضافة إلى تبريد الهواء فى وسط القاهرة لمقاومة ما يسمى بظاهرة الجزر الحرارية، والتى من المتوقع أن يزداد تأثيرها على الصحة مع تطور التغير المناخى للأسوأ فى السنوات القادمة.
ما سننفقه على تحسين جودة الهواء هو بالتأكيد أقل كثيرا جدا من تكلفة تلوث الهواء فى القاهرة طبقا لتقرير البنك الدولى، الصادر منذ خمسة أعوام تقريبا. بالتالى هناك مبرر اقتصادى واضح وقوى للغاية لوضع الصحة قبل تحسين الرؤية البصرية. كما أن البدء بتحسين الهواء سيسمح لاحقا بإعادة طلاء وترميم وتجميل يكون أكثر استدامة ولا يتدهور خلال بضعة أشهر.
للأستاذ الأمريكى والعالمى الكبير دينيس ميدو (هو وزوجته العظيمة الراحلة دونيلا ميدو كانوا ضمن أربعة علماء وضعوا التقرير - ربما هو الأهم فى القرن العشرين - والذى سمى بحدود النمو) محاضرة رائعة على شبكة الإنترنت يوضح فيها الفارق بين التدخلات القائمة على الفهم المبسط والأقرب للميكانيكى للبيئة من حولنا وبين التدخل القائم على فهم مركب للبيئة الطبيعية. يوضح الدياجرام الذى عرضه أنه بينما فى حالة التدخلات القائمة على الفهم المبسط يمكن أن يكون هناك نتائج تبدو إيجابية فى المدى القريب إلا أنها تنتهى فى المدى المتوسط والطويل إلى ما يقارب الفشل. بينما التدخل القائم على أن البيئة (طبيعية ومادية) هى منظومة معقدة سيأخد وقتا حتى يكون له مردود إيجابى ملموس ولكنه سيستمر فى هذه الحالة الإيجابية ويؤدى على المدى المتوسط والطويل إلى تدخلات مستدامة.
هل يمكن أن نتعلم من تجاربنا غير الناجحة ونتوقف عن الاستمرار فى محاولة إنجاح ما لم ينجح، وعلى الأقل أن نفكر ونستمع لوجهات نظر أخرى- ربما تتفتح أعيننا وعقولنا على مسارات أخرى لتحسين جودة حياة الناس جميعا بصورة أكثر استدامة؟

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

التعليقات