نشرت مؤسسة The American Enterprise Institute مقالًا للكاتبة شين توز، تناولت فيه جدلية الذكاء الاصطناعى، وكيف تقف الطبيعة البشرية -لا التكنولوجيا- كأكبر عقبة أمام تبنيه داخل المؤسسات، نقف على أعتاب ثورة تكنولوجية غير مسبوقة يقودها الذكاء الاصطناعى، ثورة لا تقتصر على تحسين أدوات العمل، بل تمتد لتعيد تشكيل بنية المؤسسات والمجتمعات. فهذا التطور يعد بكفاءة مضاعفة، ودقة متناهية، وابتكار يفتح آفاقًا واسعة أمام الاقتصاد والخدمات. ومع ذلك، فإن المعضلة الحقيقية لا تكمن فى الخوارزميات أو قوة الحوسبة أو حجم البيانات، بل فى الإنسان ذاته، بخوفه من التغيير وحرصه على حماية نفوذه. وهنا يبرز السؤال الجوهرى: هل تستطيع المؤسسات مواجهة هذه المقاومة البشرية لتواكب المستقبل أم ستظل أسيرة ماضيها؟.. نعرض من المقال ما يلى:
نقف اليوم على أعتاب ثورة تكنولوجية ستغير كل جوانب الأعمال والمجتمع، يقودها الذكاء الاصطناعى بكفاءة غير مسبوقة ودقة عالية وابتكار متجدد. غير أن العقبة الكبرى أمام هذا التحول ليست فى قوة الحوسبة أو البيانات، بل فى الطبيعة البشرية ذاتها.
فالشركات الحديثة أصبحت كالبيروقراطيات المحصنة، تعج بالمسئولين الذين يميلون لرفض الجديد بدلًا من احتضانه. ويبرز دور الأقسام القانونية بشكل خاص، إذ تجاوز عدد المحامين العاملين داخل الشركات الأمريكية 140 ألفًا، وقد أسسوا ما يشبه جهاز مناعة مؤسسيًا يرفض أى ابتكار خشية المخاطر. عند مواجهة حلول الذكاء الاصطناعى، لا يتساءل هؤلاء: «كيف يساعدنا؟» بل «ما الذى قد يسىء استخدامه؟». القلق يدور حول المسئولية القانونية فى حال التعطل، أو اختراق الخصوصية، أو قضايا التمييز، وهو ما أكده نصف المديرين التنفيذيين فى استطلاعات حديثة، حيث رأوا أن مخاوف الامتثال هى العائق الأساسى أمام التبنى.
لكن التحدى الأكبر يظهر بين المديرين المتوسطين، تلك الطبقة التى تربط بين رؤية القيادة والتنفيذ على الأرض. ففى حين يبدى نحو 44% من المديرين التنفيذيين فى كبرى الشركات حماسًا للذكاء الاصطناعى، يظل مديروهم المتوسطون مترددين أو مقاومين علنًا. يفسر الاقتصاديون هذه الظاهرة من خلال «ديناميات الاختيار العام»، حيث يتصرف الأفراد بدافع مصالحهم الشخصية لا لمصلحة المؤسسة. فالمديرون المتوسطون يرون فى الذكاء الاصطناعى تهديدًا لمكانتهم وفرقهم ووظائفهم، إذ إن الكفاءة تعنى إنجاز المزيد بموظفين أقل.
وبرغم أن القرار النهائى بيد القيادة، فإن السيطرة الفعلية على التنفيذ تبقى فى أيدى المديرين المتوسطين الذين يعرفون تفاصيل العمليات، ويمكنهم بسهولة تأخير أو إضعاف أو حتى إفشال المبادرات التكنولوجية. إنهم لا يمارسون جمودًا بيروقراطيًا بقدر ما يحمون أنفسهم. وهذه ليست سابقة جديدة؛ فقد واجهت كل قفزة تكنولوجية معارضة مماثلة، من حطموا آلات النسيج، إلى من رفضوا الطباعة الحديثة، وحتى سائقى سيارات الأجرة الذين قاوموا تطبيقات النقل التشاركى.
ومع ذلك، أظهرت قطاعات نجحت فى كسر هذه المقاومة كيف يمكن للتغيير أن يحدث تحولًا إيجابيًا. ففى الرعاية الصحية، يستخدم الأطباء الذكاء الاصطناعى لتحليل الصور والسجلات، ما يتيح تشخيصًا أدق وأسرع. كما أتاح الطب عن بُعد الاستشارات فى أماكن نائية، بينما أحدثت الأبحاث الجينية والطباعة ثلاثية الأبعاد ثورة فى تخصيص العلاج والأطراف الصناعية. وفى صناعة الوجبات السريعة، باتت المهام الروتينية كتلقى الطلبات وجدولة العمل وإدارة المخزون تُدار بأنظمة ذكية، مما يخفض التكاليف ويحسن الكفاءة. لكن الإنسان يظل عنصرًا لا غنى عنه فى المهام التى تحتاج إلى حكم شخصى أو إبداع أو تعاطف. ومن هنا، تعمل شركات كبرى مثل KFC وChick-fil-A على اعتماد الذكاء الاصطناعى كنظام تشغيل جديد يوازن بين الآلة والبشر.
على النقيض، ما زالت مؤسسات كثيرة عالقة فى دوامة مقاومة داخلية. فبياناتها لم تدمج فى السحابة بعد، وأقسامها القانونية غارقة فى كتابة المذكرات، والموارد البشرية منشغلة بتقييم المخاطر، فيما يتفنن المديرون المتوسطون فى تبرير خصوصية أقسامهم أو عدم ملاءمتها للأتمتة.
الحل لا يكمن فى استبعاد الإنسان، بل فى الاعتراف بطبيعته وإدارة التغيير وفقها. المؤسسات الناجحة فى تبنى الذكاء الاصطناعى هى تلك التى تدرك أن الأمر لا يتوقف عند الأداة التقنية، بل يتطلب استراتيجيات لإعادة التدريب وخلق وظائف جديدة تمزج بين كفاءة الآلة وإبداع الإنسان. الأهم أن هذه المؤسسات تعلم أن الفائز فى سباق المستقبل هو من يتجاوز الميل البشرى لمقاومة التغيير ويحتضن شراكة حقيقية بين الإنسان والآلة.
إن وضوح التوجيه من القيادة العليا يلعب دورًا حاسمًا فى تمكين المديرين المتوسطين من تبنى الأدوات الجديدة. ولتحقيق ذلك، يجب مواءمة الممارسات الداخلية مع الأطر الأوسع لحوكمة الذكاء الاصطناعى، بما يشمل الأولويات التشريعية والتنظيمية. ومن خلال إشراك مختلف أصحاب المصلحة، يمكن للقادة صياغة استراتيجيات تجمع بين التحديات والفرص. فالتوجيه الواضح لا يضمن الامتثال فقط، بل يعزز ثقة المديرين ويدفعهم لدمج الذكاء الاصطناعى فى اتخاذ القرار والمهام اليومية.
الخيار واضح أمام المؤسسات اليوم: إما أن تتطور وتلحق بركب المستقبل، وإما أن تُقصى أمام من يجرؤ على ذلك.
مراجعة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلى:
https://bitly.cx/aFfw8