أحمد مصطفى يكتب: كشك الموسيقى - منبر الشروق - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:41 م القاهرة

أحمد مصطفى يكتب: كشك الموسيقى

نشر فى : الجمعة 3 أكتوبر 2014 - 5:20 م | آخر تحديث : الجمعة 3 أكتوبر 2014 - 5:20 م

الغناء المصري.. من لجان الاستماع إلى أوكا وأورتيجا

رحم الله أياما كانت الموسيقى في مصر لا تمر إلى المستمعين إلا من أماكن معينة مثل الإذاعة المصرية عن طريق الصندوق الذى يقال له (راديو)، ودار الأوبرا المصرية التي أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل سنة 1869م، وكذلك بعضا من المسارح الأهلية التى كانت تقدم الأعمال المسرحية والغنائية، ولكن أكثرهم انتشارا ووصولا لآذان المستمعين كان الراديو، لتغطتيه مساحة كبيرة من أرض المحروسة من الإسكندرية ورشيد وصولا لكردفان وأم درمان.

زد على ذلك إذاعة صوت العرب من القاهرة التى كاد أثيرها أن يغطى مساحة كل الدول الناطقة بالعربية، فكان لا يفلت من الراديو شاردة أو واردة لآذان المستمعين، إلا وسبقها مراجعة وتدقيقا وتمحيصا على كل ما كان يقدم للناس، وكان أهم ما يقدم تلاوات القرآن الكريم والأغاني والموسيقى، فكان للقراء لجنة مكونة من كبار العلماء في علم القراءات يصاحبهم علماء من الموسيقيين لاختبار قارئ القرآن، وإذا ما تم اجتياز القارئ لاختبار الحفظ والترتيل والتجويد وكل ما يشمل من تلك العلوم، يذهب بعدها إلى لجنة الموسيقى لاختباره فى المقامات الموسيقية

والصولفيج الغنائى وبعض الضروب، فاذا نجح فى ذلك أيضا يتم اعتماده قارئا للقرآن الكريم ويصرح له بالتسجيل وبث صوته عبر الأثير، ليصل إلى مسامعنا صافيا راويا شافيا.

كذلك الحال بالنسبة للمطربين والمطربات، فكانت هناك لجنة خاصة لها معايير صارمة لاختيار الصوت المناسب, وكان من الغريب وقتئذ أن تسمع من بعض أصحاب المواهب الضحلة اعتراضهم وصب جام غضبهم على تلك اللجان الفنية التى كانت تحول بينهم وبين المستمعين, واكثر من ذلك كثيرا كنا نسمع من بعض من يطلقون على انفسهم النخبة المثقفة رفضهم للجان الاستماع وبأن ذلك منافيا لمبادىء الحرية والديمقراطية, وأنه يجب أن تكون الاذاعة للجميع.

واما خارج الاذاعة كان لكل حى من أحياء القاهرة لجنة شعبية لاختبار وإجازة المغنيين يترأسها كبير لهم مشهود له بالخبرة والنزاهة والشفافيه، فيجلس المطرب أو المطربة بين يدي الشيخ، ويقوم شيخ المطربين بالنحنحة والهمهمة والحمد والبسملة ويقول للممتحن: – ما رأيك فى قول "شُريح" إذا قال "المصيب المحسن من المغنيين هو الذى يشبع الألحان ويملأ الأنفاس ويعدل الأوزان ويفخم الألفاظ ويعرف الصواب ويقيم الإعراب ويستوفى النغم الطوال ويحسن مقاطع النغم الصغار ويصيب أجناس الإيقاع ويختلس مواقع النبرات ويستوفى ما يشكلها فى الضرب من النقرات"؟

وبعدها يطلب منه البدء في الغناء، ويوقفه ويلقي عليه السؤال تلو الآخر، وفي نهاية الأمر: إذا ما قدر للمطرب النجاح يقوم كبير المطربين بتقليده حزاما من قماش له لون خاص يلف حول خصر الممتحن لمدة 40 يوما، بعدها يصير بإذن الله مطربا مجيدا له الحق في الغناء أمام مستمعيه، وإذا ما قدر الله رسوب المطرب فى الامتحان يقوم شيخ المطربين ومساعدوه بالتوبيخ والتعنيف والتبكيت ولعن سلسفيل ابو خاش المطرب واهله وكذلك من يستمع إليه، ولا ينسوا أن يقدموا إليه النصيحة والإرشاد لسلوك طريق السداد بالابتعاد عن الغناء وأهله والبحث له عن عمل آخر يرتزق منه..

فإذا ما استجاب المطرب ورضخ فبركة ونعمة، وإذا ما خالف قرار اللجنة، ما هي إلا سويعات وترى شيخ الحارة المكلف من كبير المطربين قابضا على تلاليب المطرب المخالف، ساحبا إياه إلى قسم البوليس، ليجعلوا منه نزيلا مع المجرمين، وليقوم المطرب بالغناء لهم إمعانا فى إذلالهم، وبالتالي يأخذ المطرب نصيبه مما قدر الله له من اللزق على قفاه وركل مؤخرته حتى يعلن توبته عن الغناء ويقدم إقرارا بذلك، ويخرج من محبسه.

فهل يقلع المطرب الموهوم عن الغناء؟ ابدأ، فسرعان ما يتجه إلى بعض المقاهى التى كان يرتادها الصهبجية، وكان فيهم أصواتا جميلة محببة فى الغناء، وكان لهم رزقا معلوما كونهم من أرباب الحرف مثل الصنادلية والطرشجية والجزمجية، وهم بالطبع لا يريدون حزاما أو شهادة من شيخ المطربين، لأنهم أصحاب حرفة والغناء بالنسبة لهم مزاج وتسالى, وكان من أشهر هذه المقاهى مقهى عبده الدمرداش بالعباسية، وكان صاحب صوت جميل نقي، وكثيرا ما كان يقدم المشروبات الدافئة والباردة للصهبجية مجانا, وكان من رواد هذه المقاهى للاستماع إلى عبده الدمرداش والصهبجية الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب فى صغره.

هكذا كان حال المطربين والمطربات مع لجان الاستماع في الإذاعة أو اللجان الشعبية، ومع مرور الزمن بالبلاد وتغير أحوال العباد، أصبح الحال غير الحال بانتشار أجهزة الموسيقى مثل (البيك آب) التطور الطبيعي لآلة (الجرامافون)، وبعدها أجهزة تسجيل الصوت المتنوعة كالكاسيت، وحاليا السي دي والدي في دي والموبيلات ومحطات الإذاعة والتلفزة والانترنتات والفيس بوكات، فانفتحت البلاد على البهلى وقيل فى ذلك الحمد لله قد اصبح العالم قرية واحدة صغيرة، فلا حاجه للمطربين للجوء إلى لجان الاستماع فى لإجازتهم، فهم لو تنحنح أحدهم فى دورة المياه مترنما بـ يا ليل يا عين لسمعت الدنيا كلها صوته ورأت صورته.

وبعد أن أوجزنا بقدر المستطاع طرق وسبل وكفاح المطربين للوصول لمستمعيهم, وجب علينا الوقوف والتأمل فيما نحن فيه وما وصلنا إليه من حالة للموسيقى والغناء في بلادنا العزيزة، لنذهب سويا للاطلاع على حال أماكن أخرى باتت منوطة بتقديم فنون الموسيقى والغناء مثل المعاهد والكليات الموسيقية ودار الاوبرا المصرية وغيرها الكثير، وصولا إلى اوكا وارتيجا واغاني التوك توك، وكل ذلك بعونه تعالى سيكون بثه واصداره من كشك الموسيقى، فإلى لقاء آخر.

شارك بتعليقك