صوت مصر في قصر عائشة فهمي.. معرض فني يعيد رسم ملامح أم كلثوم

آخر تحديث: الجمعة 5 سبتمبر 2025 - 6:59 م بتوقيت القاهرة

مي فهمي

- اكتشاف «الست» من خلال أعين الفنانين وقلوب الجمهور تجربة لا تُفوَّت لكل من يريد أن يرى كيف يتحوّل الصوت إلى صورة والتاريخ إلى فن حى ينبض بالحياة


وسط أروقة قصر عائشة فهمى بالزمالك، وفى أجواء تنبض بالتاريخ والرقى، تحتضن القاهرة منذ أيام معرضًا فنيا استثنائيا تحت عنوان «صوت مصر.. الصوت الذى ألهم الصورة، احتفاءً بسيدة الغناء العربى، أم كلثوم، أيقونة الفن المصرى والعربى.
لا يقدّم المعرض سردًا تقليديًا لحياة كوكب الشرق، بل يطرح تجربة فنية بصرية، يشارك فيها عشرات الفنانين التشكيليين الذين أعادوا صياغة صورة أم كلثوم من خلال أعمال نحتية وتشكيلية مستوحاة من صوتها وتأثيرها الثقافى.
منذ اللحظة الأولى لدخول المعرض يشعر الزائر أنه أمام تجربة فنية متكاملة؛ فالتفاصيل المعمارية الكلاسيكية للقصر، والموسيقى المنبعثة بهدوء فى الخلفية، والأعمال الفنية المعروضة داخل القاعات الفسيحة، كلها عناصر تتآلف لتشكّل مشهدًا بصريًا ووجدانيًا يعيد تقديم أم كلثوم بروح جديدة.
يضم المعرض أكثر من 28 عملا فنيًا متنوعًا بين الرسم، النحت، والتركيب، قدّمها فنانون من أجيال مختلفة، عبّر كلٌّ منهم عن رؤيته الخاصة لشخصية أم كلثوم، اللافت أن هذه الرؤى لم تنحصر فى الجانب الغنائى فقط، بل تجاوزته إلى أبعاد رمزية وثقافية، جعلت من صوتها امتدادًا لهوية مصرية عميقة الجذور.

- أم كلثوم فى عيون الفنانين

تنوعت الأعمال بين ما هو واقعى وما هو تجريدى، ففى إحدى القاعات، يُطالع الزائر تمثالًا برونزيًا يجسّد أم كلثوم وهى تقف على المسرح، بيدٍ تمسك بمنديلها الشهير، وتكاد ملامحها تنطق بقوة شخصيتها وهيبتها، وفى لوحة أخرى، تظهر ملامحها وقد غمرها الضوء، وكأنها تخرج من الظل إلى العلن، فى استدعاء رمزى لصوتها الذى ظل حاضرًا رغم مرور الزمن.
رأى بعض الفنانين فى صوتها جذورًا ضاربة فى عمق الأرض، فعبّروا عنها على هيئة شجرة ضخمة، يتفرع منها الغناء، والمقاومة، والهوية، بينما جسّد آخرون صوتها كنبض بصرى متحرك، فاستخدموا الخط العربى، والإضاءة، والعناصر الهندسية فى تركيب لوحات تجمع بين السمع والبصر فى آنٍ واحد.

- مقتنيات حقيقية: ذاكرة محفوظة فى الأشياء

ما يميّز المعرض أيضًا أنه لا يقتصر على الأعمال الفنية المعاصرة فحسب، بل يضم زاوية مخصصة لمجموعة من المقتنيات الأصلية الخاصة بأم كلثوم، تم استعارتها من متحفها فى المنيل تشمل هذه المجموعة: فساتين ارتدتها فى حفلات شهيرة، نظاراتها، أحذيتها، وبعض الرسائل التى كتبت لها من الرئيس المصرى جمال عبد الناصر، وحتى مناديلها الحريرية، ومجموعة من الطوابع المختلفة التى صدرت تحمل صورتها، تقف هذه المعروضات كشاهدة على لحظات فارقة فى حياتها، وتجعل الزائر يشعر أنه أقرب إليها من أى وقت مضى.
كما خُصصت إحدى القاعات لعرض أرشيف صحفى نادر يضم نسخًا من مجلات وصحف تناولت أخبارها منذ بداياتها الفنية وحتى رحيلها، ما يتيح للزائر قراءة التاريخ الثقافى المصرى من خلال مسيرتها الشخصية.
وفى إطار حرص المعرض على تقديم تجربة جامعة تجمع بين البصرى والكتابى، شارك الناقد والكاتب الصحفى سيد محمود فى الإعداد، وقدم مجموعة من مقتنياته الخاصة من الكتب التى تُعنى بأم كلثوم، إذ أعرب عن اعتقاده بأن الاحتفاء بهذه الشخصية العظيمة لا يكتمل إلا بإضاءة بصيرة القارئ، وتم عرض ما يقارب أربعين عنوانًا توثّق جوانب مختلفة من حياتها وأثرها الثقافى.
رغم الطابع البصرى للمعرض، يظل الصوت هو العنصر الغائب الحاضر، فقد تم تنسيق المعروضات داخل القاعات على وقع تسجيلات لأغانيها، ما يمنح التجربة طابعًا حسيًا يجمع بين الفن التشكيلى والصوتى فى آنٍ واحد، يبدو كأن اللوحات تتحدث بلغتها، وكأن صوتها لا يزال يملأ الأمكنة، محافظًا على نبضه كما لو كان حيًّا.
والمعرض، الذى يستمر حتى نهاية سبتمبر الجارى، ليس فقط احتفاءً بفنانة عظيمة، بل هو توثيق بصرى لتأثير صوت غيّر ملامح الغناء العربى. إنه دعوة للتأمل فى معنى «الرمز» فى الذاكرة الجمعية، وكيف يمكن لفنانة أن تظل حاضرة بأعمال فنية تتجاوز الزمان والمكان.
كما أن إقامة المعرض داخل قصر عائشة فهمى، وهو أحد أهم المعالم الفنية والتاريخية فى القاهرة، منح الحدث بُعدًا إضافيًا، حيث تلتقى الأصالة المعمارية مع الحداثة الفنية، فى تفاعل متبادل يعكس روح أم كلثوم نفسها، التى جمعت بين التراث والتجديد فى صوتها وأدائها.
فى معرض «صوت مصر»، لا نشاهد أم كلثوم فحسب، بل نسمعها، ونشعر بها، ونتأمل معناها الرمزى فى وجدان الشعب المصرى والعربى، إنه معرض يتجاوز فكرة التوثيق، ليصبح مساحة حرة لإعادة اكتشاف «الست» من خلال أعين الفنانين وقلوب الجمهور، تجربة لا تُفوَّت لكل من يريد أن يرى كيف يتحوّل الصوت إلى صورة، والتاريخ إلى فن حى ينبض بالحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved