السينما وحرب أكتوبر: كيف تُشكل الأفلام وعي المصريين بالتاريخ؟
آخر تحديث: الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 2:28 م بتوقيت القاهرة
محمد حسين
في السادس من أكتوبر من كل عام، تستعيد مصر واحدة من أعظم لحظاتها في التاريخ الحديث؛ ذكرى نصر أكتوبر المجيد، الذي شكّل نقطة تحول كبرى في الصراع العربي الإسرائيلي، وأعاد للأمة العربية كرامتها وهيبتها.
ففي مثل هذا اليوم من عام 1973، أثبتت القوات المسلحة المصرية أن الإرادة لا تُهزم، وأن التخطيط والعقيدة القتالية الصلبة قادران على اختراق المستحيل، فعبرت قناة السويس، ودكّت حصون خط بارليف، وأسقطت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر".
ولأن الذاكرة الوطنية لا تكتمل إلا بالرواية الفنية، اعتاد المصريون في كل ذكرى على مشاهدة الأفلام السينمائية التي حاولت توثيق هذا النصر العظيم، كجزء من طقس اجتماعي وثقافي متجذّر، لتصبح السينما - بما تقدمه من مشاهد وتفاصيل وأبطال - وسيلة فنية لتجديد الشعور بالفخر والانتماء.
هذا الحضور المتكرر لأفلام حرب أكتوبر في الوعي الجمعي كان موضوعًا لدراسة بحثية نشرتها مجلة البحوث والدراسات الإعلامية في عددها التاسع والعشرين لعام 2024، أعدّتها الدكتورة نسرين محمد عبد العزيز، تناولت فيها مدى اعتماد الجمهور المصري على الأفلام السينمائية كمصدر للمعلومات عن الحرب، وكيف تسهم هذه الأعمال في تشكيل وعي الأجيال الجديدة بتاريخ وطنها.
- الفيلم وثيقة تاريخية
تضمنت الدراسة شهادات لعدد من الخبراء العسكريين الذين شاركوا في المعركة، حيث يقول اللواء سمير فرج، إن الدراما السينمائية تمثل وثيقة تاريخية تحفظ الذاكرة الوطنية للأحداث الكبرى، مشيرًا إلى أن الفيلم الإسرائيلي جولدا ماير يُعد نموذجًا واضحًا لذلك، إذ قدّم صورة درامية دقيقة عن توقيت اتخاذ قرار الحرب في عام 1973، وكيف تعاملت القيادة الإسرائيلية مع لحظة العبور.
ويضيف أن الفيلم، رغم ما تضمنه من تحيّزات سياسية لصالح إسرائيل، يُجسّد بصدق فكرة أن السينما يمكن أن تؤدي دورًا مهمًا في توثيق التاريخ ونقل صورة الحدث العسكري والسياسي إلى الأجيال الجديدة.
وأشار اللواء فرج إلى أن الدراما قادرة على إثراء وعي المواطنين بالمعلومات الحربية، موضحًا أنه خلال فترة حرب الاستنزاف، كانت تُعرض أفلام وثائقية وأعمال روائية أجنبية لتثقيف الشعب المصري وتعريفه بتكتيكات القتال ومعاني الصمود، إلا أن السينما المصرية لم تُنتج بالمقابل ما يوازي تلك الجهود، رغم ما تمتلكه من رصيد حافل بالبطولات والمعارك.
وأكد أن الاعتماد على الإنتاج الأجنبي لتجسيد معاركنا القومية يمثل فجوة يجب تداركها، داعيًا إلى إنتاج أفلام مصرية خالصة تعبّر عن معارك الاستنزاف وحرب أكتوبر بروحها الوطنية وواقعها الميداني.
- تعبير محدود
يرى اللواء محيي نوح أن قدرة الأفلام السينمائية الحربية الروائية المصرية على التعبير عن أحداث حرب أكتوبر 1973، وفترة النكسة والاستنزاف، كانت محدودة نسبيًا، حيث لم تتناول سوى عدد قليل من الأفلام الحقيقة في مضمونها.
ويقول إن بعض الأفلام تناولت فترة النكسة وركّزت على أسباب الهزيمة، أبرزها فيلم "الكرنك"، الذي عرض التفاعلات بين الشعب والقوات المسلحة في تلك المرحلة، مشيرا إلى أن فيلم "الممر" استطاع أن يعبّر عن فترة الاستنزاف والتمهيد للحرب بشكل كبير، مما كان له أثر واسع على فئة الشباب وعلى المجتمع المصري ككل.
ويضيف أن فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" يُعد من الأفلام الجيدة، لكنه يرى أن بقية الأفلام لم تنجح في تقديم الصورة الحقيقية أو الواقعية لحرب أكتوبر أو لفترة الاستنزاف أو النكسة، ولم تستطع تمثيلها بدقة وعمق كافٍ.
ويرى اللواء نوح كذلك أن هناك أحداثًا سياسية هامة خلال تلك الفترة لم تعبر عنها السينما الحربية الروائية المصرية بشكل كافٍ، من بينها تكاتف البلدان العربية وبعض الدول الأفريقية مع مصر في حربها ضد العدو الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن دولًا مثل السعودية والعراق والكويت والجزائر أصدرت قرارات ومواقف مؤثرة، منها قرارات مجلس الأمن رقم 338 و242، والاجتماعات المتكررة لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة دعمًا للقتال العربي وإيقاف الحرب.
كما أشار إلى الأحداث البارزة مثل زيارة هنري كيسنجر إلى مصر ولقائه بالرئيسين السادات ونيكسون، وما تبع ذلك من تطورات سياسية كبرى شملت مباحثات السلام، واتفاقية كامب ديفيد، واستكمال مراحل التفاوض حتى استرداد طابا عام 1989.
- غياب لحالة المزاج الشعبي أثناء المعركة
قال اللواء محيي نوح إن السينما المصرية لم تعبّر بالكامل عن حياة المصريين وقت الحرب، سواء في الجبهة أو في كواليس الشارع المصري، مشيرًا إلى أن الصورة كانت تفتقر إلى تمثيل الأسر المصرية التي عاشت الحرب، وخاصة أسر الضباط والجنود الذين كانوا يقاتلون على خطوط المواجهة.
وأوضح أن هذه الأسر كانت طرفًا أصيلًا في معركة الصمود، حيث تحمّلت ضغوطًا حياتية واقتصادية كبيرة خلال حرب الاستنزاف، وواجهت نقص السلع والاحتياجات في محافظات القناة الثلاث: بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، لكنها صبرت وساندت أبناءها المقاتلين، مؤمنة بأن هدفها الأكبر هو تحرير الأرض.
وأشار إلى أن دور هذه الأسر في دعم القوات المسلحة ومساندة المجتمع وقت الحرب لم ينعكس بصورة كافية في السينما المصرية، إذ اكتفت الأفلام بتقديم مشاهد رمزية أو هامشية ولم تُبرز عمق هذه التجربة الإنسانية والوطنية الفريدة.
كما يرى اللواء نوح أن هناك شخصيات سياسية وعسكرية بارزة لعبت أدوارًا محورية في إدارة حرب أكتوبر، لم تحظَ بتجسيد لائق في الأفلام الروائية المصرية، مؤكدًا أن من أبرز هذه الشخصيات: الرئيس محمد أنور السادات، صاحب قرار الحرب والسلام، إلى جانب القادة العسكريين مثل: (الفريق عبد المنعم رياض، والفريق محمد فوزي، والمشير أحمد إسماعيل، والفريق سعد الدين الشاذلي، واللواء الجمسي).
وقال إن السينما لم تُنصف هؤلاء القادة الذين تحمّلوا مسؤوليات كبرى وساهموا في تحقيق النصر، مطالبًا بضرورة إنتاج أعمال سينمائية ووثائقية تخلّد سيرهم وتنقل خبراتهم للأجيال الجديدة.
وأكد اللواء نوح أن تجسيد دور الجنود والضباط في السينما المصرية جاء سطحيًا وغير عميق، موضحًا أن الأفلام لم تدخل إلى أعماق الشخصيات العسكرية التي خاضت القتال وواجهت الموت ببسالة، مضيفًا أن الجنود المصريين قدموا بطولات وتضحيات استثنائية تستحق معالجة درامية أكثر عمقًا وصدقًا.
- غالبية المصريين يُقبلون على مشاهدة أفلام أكتوبر
كشفت الدراسة الميدانية أن غالبية الجمهور المصري تُقبل على متابعة الأفلام السينمائية الحربية التي تتناول حرب أكتوبر وما قبلها، حيث أوضحت النتائج أن 42.7% من العينة يشاهدون هذه الأفلام دائمًا، و47.3% يشاهدونها أحيانًا، بينما 10% فقط نادرًا ما يتابعونها.
وتدل هذه الأرقام على أن ما يقارب 9 من كل 10 مشاهدين في مصر يتعرّضون بدرجات متفاوتة للأعمال الدرامية المرتبطة بالحرب، وهو ما يؤكد قوة حضور حرب أكتوبر في الوجدان الجمعي واستمرار تأثيرها في الذاكرة الوطنية من خلال السينما.
أما فيما يخص عدد الأفلام التي يشاهدها الجمهور أسبوعيًا، فقد أظهرت النتائج أن 54% من أفراد العينة يشاهدون فيلمًا واحدًا أسبوعيًا، و34% يشاهدون فيلمين إلى ثلاثة أسبوعيًا، بينما تراجعت نسبة من يشاهدون أكثر من ثلاثة أفلام إلى 12% فقط.
- الانتصار.. ذكرى حية في المخيلة العامة
تشير هذه النسب إلى أن المشاهدة الحربية لدى الجمهور المصري تتخذ طابعًا متقطعًا ومنتظمًا جزئيًا، وليست عادة مستمرة، لكنها كافية لإبقاء ذكرى النصر حية في المخيلة العامة.
ومن حيث التركيبة الديموغرافية للعينة، تبين أن الذكور يمثلون 44.7% مقابل 55.3% من الإناث، وهو ما يعكس توازنًا نسبيًا في الاهتمام بالسينما الحربية بين الجنسين.
أما الفئات العمرية، فقد شكّل من تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا نسبة 54%، ومن 35 إلى 50 عامًا نسبة 32%، ومن 50 سنة فأكثر نسبة 14%، مما يوضح أن الفئة الشابة هي الأكثر متابعة لهذه النوعية من الأفلام، وتعتبرها مصدرًا أساسيًا لتشكيل وعيها التاريخي.
وفيما يتعلق بالمستوى التعليمي، أظهرت النتائج أن 51.3% من العينة حاصلون على مؤهل جامعي، و34.3% على مؤهل فوق المتوسط، و14.4% على دراسات عليا، مما يؤكد أن الفئة المتعلمة هي الأكثر تفاعلًا مع هذا النوع من الأعمال.
أما بالنسبة للدخل الشهري، فقد تبيّن أن 37.3% من العينة ينتمون إلى فئة الدخل المنخفض، و45.3% إلى فئة الدخل المتوسط، و17.3% إلى فئة الدخل المرتفع، مما يعكس انتشار متابعة الأفلام الحربية في شرائح اجتماعية متنوعة، وإن كانت الطبقة الوسطى هي الأكثر تمثيلًا.
- دوافع المشاهدة وأسباب الإقبال
أظهرت نتائج الدراسة أن 56.6% من الجمهور يُرجعون سبب مشاهدتهم لهذه الأفلام إلى رغبتهم في الاستزادة بالمعلومات عن الحرب وأحداثها، فيما يرى 16.9% أن أداء الممثلين كان الدافع الأساسي.
وأشار 8.4% إلى أن الذكريات الشخصية والارتباط العاطفي بالموضوع هي ما تدفعهم للمشاهدة، بينما أوضح 6.2% أن اهتمامهم يعود إلى علاقاتهم بأسر شاركت في الحرب.
كما ذكر 12.9% أن أسبابهم بحتة أو علمية أو دراسية، وأفاد 4.7% بأن المشاهدة لديهم ترتبط بدوافع اجتماعية أخرى.