رضوى الأسود تكتب: أزمة المثقف في ثلاثية علاء الديب
آخر تحديث: الجمعة 7 مارس 2025 - 8:09 م بتوقيت القاهرة
يشغل المثقف حيزًا لا يُستهان به فى أعمال علاء الديب، القاص والروائى والمترجِم، المولود فى 4 فبراير 1939، والمتوفى فى 18 فبراير 2016، فنرى البطل فى روايتة «زهر الليمون»، نموذجًا للمثقف الشيوعى الذى كَسَرَت روحه حرب 1967، ثم تأتى قصة الحب والارتباط والطلاق، فتُجهِز على البقية الباقية منه، فيتحول لجسد بلا روح، مستغرقًا فى مشاكله النفسية.
لم تتغير تلك النظرة كثيرًا فى ثلاثيته الشهيرة «أطفال بلا دموع» 1989، «قمر على المستنقع» 1993، «عيون البنفسج» 1999، بل زاد عليها كابوسا الحقبة الساداتية والمباركية، من خلال رصد التغيرات الجذرية التى حدثت فى قلب الشخصية المصرية وبالمثل فى مظهرها الخارجى، واستحداث ثقافات جديدة على المجتمع بفعل التغيرات السياسية والاقتصادية العنيفة التى عصفت بالمواطن المصرى وجعلته حطامًا.
وبما أن المثقف جزء من كل، مرسِل ومتلق، وأكبر شاهد على هذا التغيير، وهو الانعكاس الطبيعى لأحوال المجتمعات، يبين لنا الكاتب كيف أن دوره قد خَفت وبَهت بفعل تلك الأوضاع، فى حين أنه كان من الممكن أن يكون طوق النجاة وبوصلة النجاح لهذا الوطن المغدور، فللمثقف دور خطير فى تشكيل الأوطان، كما لعبت طبقة الكُتَّاب والفلاسفة فى فرنسا دورًا رئيسيًا فى المجتمع، ممَّا مهد لقيام الثورة الفرنسية.
أكبر وأهم شخصية مثقفة فى هذه الثلاثية هو الزوج «منير فكًّار»، الإشتراكى السابق، ومشروع الأديب الكبير الذى لم يتحقق، والكاتب المزيَّف، والمُعار إلى دولة خليجية.
فى الرواية الأولى (أطفال بلا دموع) يضع بنفسه حدودًا فاصلة بين الكتابة الحقيقية والكتابة المزيَّفة، الأولى بروح هاوية وعفوية، والثانية بروح إحترافية وآلية، طبقًا لاقتصاديات السوق والذائقة السائدة مهما كانت فاسدة مما يدنِّس قدسية عملية الكتابة: «أستطيع استعمال تدريبات القلم والأوراق وقراءة القرآن، لكن الكتابة صارت بعيدا عن الأبحاث والرسائل والمحاضرات شيئًا آخر غير الكتابة التى أقصدها، صارت حسابًا وتكتيكًا، وتوظيف أوقات وأموال، استثمارًا جديدًا، أما الكتابة القديمة فقد كانت مهجورة منذ سنين، من يقدر الآن على الطهارة التى تتطلبها الكتابة؟! طهارة تحتاج إلى وضوء، وصلاة، وجلباب أبيض نظيف وجسد مغسول، وروح حرة».
يواجه البطل «منير فكَّار» نفسه، وكذلك أحلامه المغدورة قائلاً: «من أى رصيد أسحب وإلى أى رصيد أُضيف؟» فى إشارة لتَبَيُّنه فى النهاية زيف وهشاشة ما حققه، وأنه مهما كان العائد المادى ضخمًا، فمقابِله كانت التضحية بالروح والموهبة والحلم، مقابلا يظل ضئيلًا أمام الثمن المسفوح.
أيضًا يحدثنا عن تجربة الكتابة فى الوطن الأول (مصر)، والوطن الثانى (البلد النفطى المُعار إليه)، وكيف أن المقالات فى مصر مقابلها الماديّ لا يشترى قميصًا، لكنها تكون سبب شهرة الكاتب الذى يتم الإحتفاء به فى "الوطن الثاني"، فيجدها لدى رؤساء تحرير المجلات الأدبية، ويُبدى البعض رغبته فى إعادة نشرها بعد إجراء تعديلات طفيفة، بعدها يأتى الأجر الذى يكون عادة عشرة أضعاف الأجر فى مصر، لكن لا أحد يقرأها أو يناقشه فيها!
تَروى عنه زوجته فى الرواية الثانية (قمر على المستنقع) كيف خدعها بأفكاره اليسارية، وبأنه فنان وكاتب وقاص، لتكتشف بعد ذلك أن كل ذلك محض أكاذيب وزيف، ويبوح هو بكل أمانة فى الرواية الأولى (أطفال بلا دموع) كيفية احترافه الكتابة التى أصبحت أداة لـ«أكل العيش» وطريقا لتجميع الثروة باستخدام الكلمات الرنانة والمستهلَكة، والتى لا تقدم جديدًا ولا تغير فى المجتمعات، فتُبقى الحال على ما هو عليه، وتُعلِن انتحار المستقبل، بمقالات يجمع عباراتها المنمقة من أمهات الكتب، ويجعلها تتراص بجوار بعضها بعضًا فى أناقة باذخة لجمع المزيد من الدولارات، وظل فى حالة دءوبة تقترب من المرض لجمع المال.
كانت الإعارة مشروعه الكبير وخطته الوحيدة، والتى تنازل فيها ومن أجلها عن حلمه فى أن يكون أديبًا يشار إليه بالبنان، وبدلًا من ذلك أضحى ماكينة شرهة لجمع النقود، حتى أنه كان يصنف أوراقه طبقًا للمادة فقط؛ فتلك الخاصة بالكتابة، والتى يضع فيها جنونه وأفكاره وبؤسه ووصيته، كانت توضع فى كيس بلاستيكى، أما أوراق البنكنوت والشيكات والحُجج، فكان يضعها فى حقيبة مصفحة، هكذا كان ينظر للإبداع، لما يخطه القلم بحبر القلب، مصيره فى مكان فقير لا يليق به، أما كل ما هو خاص بالمال، فله نصيب الأسد والمكانة التى يستحقها!
نموذج آخر للمثقف المحبَط، هو عزيز شفيق، الفنان التشكيلى الذى هزمته حرب الستة أيام، فقرر الانسحاب من حياة الإنسانة الوحيدة التى أحبها (الزوجة سناء فرج)، ثم الهجرة والموت اغترابًا.
هناك نموذج وحيد إيجابى للمثقف اليسارى، هو «شوقى عامر» صديق الزوج، والذى أصبح لاحقًا صديقًا للابن «تامر»، مَن احتمل قسوة المعتقلات وتحولات البشر وتبدُّل الظروف، ولم يتغير فيه شىء، ظل كما هو مخلِصًا لضميره وقضيته، ما يُبقيه على قيد الحياة إيمانه بحتمية التغيير. يرى أن «للمثقف الفنان دورا واحدا هو الذى يبرِّر وجوده: الاعتراض وعدم قبول ما هو قائم، والبحث الدائم عن إمكانية تغييره»، على الرغم من أن جميع من يدورون حوله من المتثاقفين ومحترفى الكلام والمُسَيَّسين كانوا "طابورًا طويلًا مِن خَدَم السُلطة والباحثين عن مكاسب أو حلول شخصية لحياتهم». كان يرى ذلك حالة عامة وبائية أخصَتهم وأخضعَتهم، فأصبحوا مستأنَسين بلا أنياب تُراجِع أو تُعارِض السُلطة، أو حتى تُبَدِّل كتاباتهم المجتمعات.
تناقِش الثلاثية وتحديدًا فى الرواية الأخيرة (عيون البنفسج)، العالَم الزائف للمثقفين، وانفصالهم وعزلتهم عن الواقع وما يحدث فيه، بالإضافة لتضخُّم ذواتهم، ومعاركهم الواهية والوهمية: «جيوشًا من النمل اجتمعوا حول جلد ثعبان فارغ»، يهربون إمَّا إلى الخارج لجمع المال، وإمَّا إلى الداخل، نحو دهاليز السلطة ومكاتب المسئولين.
علاء الديب الذى بدأ إحباطاته وانكساراته منذ ما أسماه بهزيمة ثورة 1952، ثم اكتمال تلك الهزيمة بحرب 1967، التى يقول إنها قتلته وأنه من يومها ميت، حيث لم يستطع جيله بأكمله تجاوز تلك الهزيمة النكراء، ولم يمحُها نصر أكتوبر 1973، لِمَا استتبعه من هزيمة سياسية، وسياسة انفتاح اقتصادى أَعَزَّت السارق، وأذَلَّت نظيف اليد، وانتصرت للاقتصاد الطُفيلى والنمط الاستهلاكى فأضحت العشوائية أسلوب حياة والقُبح ثقافة، فأتت على البقية الباقية من روح مصر وتَفَرُّد هويتها وثقافتها وقيمها ومعاييرها الأخلاقية والمجتمعية.
فى الرواية الثالثة (عيون البنفسج)، نرى واحدًا من المثقفين المزيفين الذين يتوهمون أنهم يُبدعون ويُضيفون إلى عالم الثقافة والأدب حينما يعاتب «تامر» على عدم مشاركته فى الحياة الثقافية، وأنه يهرب ولا يؤدى واجبه المفروض عليه، فيفاجئه تامر بصفعات كلامية، وأنه «هو الهارب فى كل ما يفعل أو يكتب أو يقول، وأنه لا يرى شيئًا ولا يدافع عن شيء، وأن ما يفعله هو استرزاق بذىء من مال ناس فى حاجة إلى رغيف ومدرسة نظيفة، وأنَّ الديمقراطية النسبية التى يتحدَّث عنها ليست سوى ستار يتخفَّى وراءه النهابون أمثاله».
الأب والأم والابن، بدرجات ثقافاتهم المتفاوتة، والمشتركون جميعًا فى موهبة الكتابة، ضحايا الوضع السياسى والاقتصادي، الذى انحدر بالوطن نحو الهاوية، وتأثَّرَت به جليًا طبقة المثقفين، فحَوَّلتهم لشخصيات اكتئابية، انعزالية، وأعجَزَتهم فى النهاية عن تحقيق حلم وحيد بالكتابة والتحقُّق من خلالها، ليظل الفشل عنوانا دائما لأحلامهم وحياتهم.
كاتبة وروائية مصرية