أسامة غريب يكتب: القطار ومحطة الحسرة
آخر تحديث: الجمعة 8 أغسطس 2025 - 7:27 م بتوقيت القاهرة
عندما كنا ندرس بكلية الإعلام، كان التدريب العملى بقسم الإذاعة والتليفزيون يتضمن قيام الطلبة بعمل فيلم وثائقى يتولون فيه بأنفسهم عمل الاسكربت، والقيام بالتصوير والمونتاج والإخراج، وكذلك التدرب على تقديم برنامج وكتابة السيناريو الخاص به، مع تحضير الأسئلة وضبط الكاميرات والإضاءة وكل ما يلزم لإكساب الطلبة أساسيات العمل الإعلامى المرئى.
تذكرت ذلك عندما اتصل بى عدد من الطلبة والطالبات الذين يدرسون الإعلام ويشتركون فى مشروع للتخرج، مقترحين أن أكون ضيفهم فى عمل يقومون به حول تجربتى فى العمل الإعلامى والكتابة الصحفية والروائية. لا أنكر أننى تحمست لهم، واستعادت ذاكرتى أيام كنت فى سنهم أقوم بمشروع مماثل مع زملائى، فرحبت على الفور.
شعرت بالدهشة عندما سألوني عن المكان الذى أقترحه للتصوير، إذ إن الإعداد الجيد يقتضى أن يكونوا قد حددوا هذه الأشياء وقرروا ما إذا كان التصوير سيكون داخليًا أم خارجيًا، بالليل أو بالنهار. لكنهم أخبرونى بأن الأمور الآن لم تعد مثلما كانت على أيامى، وأن التسهيلات التى تقدم لهم من أى جهة تكاد تكون صفرًا. قلت لهم: حددوا مكان التصوير وسأحضر فى الموعد الذى نتفق عليه.
سألتنى فتاة من الفريق على استحياء إذا كنت أسمح لهم أن يحضروا إلى منزلى ليقوموا بالتصوير فيه! أزعجتنى الفكرة بسبب عدد من التجارب السيئة التى أحملها لبرامج تليفزيونية تم تسجيلها معى بالبيت، حين زعموا رغبتهم فى تعريف المُشاهد على الأماكن التى أجلس بها وطقوسى الخاصة فى الكتابة، وأشياء سخيفة من هذا القبيل يضحكون بها على الزبون معتقدين أنه سيفرح!
أقول: على الرغم من ضيقى بالفكرة، وتذكرى أنهم يعيثون فى المنزل إرباكًا ويزعجون أهل البيت، إلا أننى ضعفت ووافقت من أجل مساعدة زملائى الصغار الذين يبدأون المشوار الذى قطعته قبلهم بسنين.
كان فريق العمل مشكلاً من معيدة بالقسم وخمسة طلبة، ولهذا كانت دهشتى شديدة عندما رأيت جيشًا جرارًا يطرق بابى، مؤلفًا مما يزيد على 20 فردًا، ومعهم الكاميرات والحوامل ومعدات الإضاءة وشحن البطاريات.. فريق متكامل ممن يقومون بعمل المسلسلات التليفزيونية!
أخذت الطلبة جانبًا وسألتهم عمن يكون هؤلاء الناس، فأخبرونى بأن هؤلاء هم الفنيون العاملون بالشركة التى لجأوا إليها لتنفيذ مشروع التخرج! قلت فى هلع حقيقى: ماذا؟ فنيون وشركة تنفذ لكم مشروع التخرج؟ ما هذا الهراء الذى تتحدثون به؟ لقد كان التدريب على أيامنا هو أن نقوم نحن بالعمل، لا أن يقوم به محترفون مستأجرون ثم نضع أسماءنا عليه!
لاذوا بالصمت، فسألت وأنا فى قمة الأسى: وهل يعرف أساتذتكم ما تفعلونه؟ فكان ردهم بالإيجاب، بل زادوا بأن بعض أساتذتهم شركاء فى هذه الشركات التى تنفذ لهم الأعمال لقاء أجر باهظ!
لا أخفيكم أننى شعرت بغم عظيم، وفقدت رغبتى تمامًا فى أن أكون ضيفًا على مشروعهم الزائف هذا الذى سيأخذون عليه درجات دون أن يكونوا قد قاموا بأى شىء فيه، بخلاف إلقاء أسئلة ساذجة على الضيف المغفل!
وكان مما ضاعف نقمتى أن الجيش الجرار الذى أحضروه معهم قد أخذ أفراده فى الانتشار فى البيت بدون إحم ولا دستور، وأخذوا يفتحون الأبواب ويدخلون الغرف دون استئذان، ويتعاملون مع المكان على أنه بلاتوه مفتوح لهم يتصرفون فيه كما يريدون. كما لاحظت واحدًا منهم شديد الاعتداد بالنفس، رجّحتُ أنه المخرج، يلقى للآخرين أوامر متأففة، وقد أمر سيادته بإخراج أحد صالونات المنزل وإبعاده حتى تكون زوايا التصوير مناسبة لرؤيته.
ظللت أتابعهم فى ذهول لعدة دقائق، ثم فاجأت نفسى فى لحظة وصرخت فيهم بأعلى صوتى: ستوب.. ما هذا الذى تفعلونه فى بيتى؟.. اخرجوا بره جميعًا.. لا أريدكم هنا وليذهب برنامجكم إلى الجحيم.
ران على المكان صمت عميق، ووجدت الطلبة أصحاب المشروع يأخذون المخرج وفريقه للخارج ويبعدونهم عن ناظرى، ثم يعودون إلىّ بعد قليل راجين منى فى ضراعة ألا أضيع عليهم المشروع والفلوس التى دفعوها من مصروفهم للشركة، وأن أقبل لأجل خاطرهم أن نقوم بالتصوير.
ولم تنس المعيدة التى تشرف على عمل الطلبة أن تذكر لى أن هذه الأيام تختلف عن أيامى بقيمها وأهدافها وأساليبها، مما يستوجب أن أكون أكثر تفهمًا لظروف جيل لم يحصل على تعليم ذى قيمة، كما لم يجد من يقتدى بهم من الأساتذة والمعلمين.
شعرت بالإشفاق نحوهم رغم ضيقى منهم وحنقى على الأخ ديسيكا المخرج الذى تصور نفسه فى حديقة الأندلس، وأخذ يتجول فى بيتى ويعطى أهل البيت أوامر بتحريك آرائك وإزاحة طاولات ورفع تابلوهات.
وافقت على مضض أن يتم التصوير، لكن فى الروف فوق سطوح البيت، وإلا فليرحلوا غير مأسوف عليهم. وافق الطلبة فى سعادة، ورضخ الأخ برتولوتشى وعيناه تطقّان شررًا.
صعدنا إلى فوق، وتركتهم يضبطون ويجهزون ويضيئون ويطفئون، وعندما دارت الكاميرا وبدأ التصوير، وجدتنى فاقدًا للحماس، ولقيت إجاباتى فاترة لا تحمل أيا مما كنت أتمنى أن أقوله لهم، ذلك أننى أدركت أن الفيلم كله هندى، وأننى أقوم فيه بدور أميتاب باتشان.
بعد انصرافهم، اجتاحتنى موجة كآبة، وشعرت برغبة فى البكاء، ولم أتمالك نفسى من لعن الأيام السفيهة التى أوصلت قطارنا لمحطة الحسرة.