شرق النخيل.. كيف تحولت أحلام جيل الستينيات إلى كابوس؟

آخر تحديث: السبت 11 يناير 2025 - 8:36 م بتوقيت القاهرة

إيمان صبري

في عام 1967 ذاقت مصر مرارة الهزيمة التي تحولت إلى حزن خيم على وجوه المصريين وندبة في قلوبهم، وكان لكل منا طريقة في التعبير عن ذلك الحزن، فمنا من قرر عدم المواجهة والانعزال تماما عن الشأن العام وكأن لا شيء مما حدث أو يمكن أن يحدث يعنيه، حالة إنكار كما يسميها أطباء علم النفس الآن، ولكن بطبيعة شعبنا الذي يرفض الانصياع لمرارة الهزيمة كان هناك هجوم على من واجه الهزيمة بالإنكار ونعتهم بالضعف والتخاذل وأن لا فائدة مرجوة منهم، بل هم السبب الحقيقي الذي يحول بيننا وبين الخروج من دوامة الهزيمة، وما زاد الأمر سوء في مفارقة غريبة، أن من اختار العزلة كان يعترف أن لا فائدة مرجوة منه بالفعل فلا يزيده الهجوم عليه سوى رغبة أكبر في الاستسلام.

ولكن يظل السؤال: كيف عاش هؤلاء وسط ضجيج تلك المرحلة التي كان كل ما فيها يطالبهم بالمقاومة؟ وهل كانت النكسة هي هزيمتهم الوحيدة؟ أم أنهم أبناء هزائم صغرى كتلتها الحرب ووضعتها في حجمها الحقيقي الذي لا يستطيعون مواجهته؟

في رواية شرق النخيل أول الأعمال الروائية للكاتب الراحل بهاء طاهر التي كتبها عام 1985، ثم أعادت دار الشروق إصدارها عام 2009 وحتى الآن، يحاول طاهر أن يرصد تلك الحالة، ويقف على أسباب الهزيمة الاجتماعية والثقافية لا العسكرية التي لم يتطرق إليها من الأساس.

تتشابك خيوط الرواية بين يدي بطل معلوم الهوية أو كما يعرف في عالم الأدب بالراوي العليم الذي يحدد لك صوته ملامحه بدقة وكأنك تراه بالرغم من أنه لا يعرف خلال الأحداث بإسم محدد، وهو ما فعله الكاتب أيضا كناية عن أن من عاشوا حياة البطل في تلك المرحلة كثر، تتشابه ملامح حياتهم حد التطابق فما الفائدة من ذكر أسمائهم والتجربة مازالت آثارها حاضرة وبقوة بل هي التي شكلت الحاضر والمستقبل أيضا.

يستيقظ البطل في أحد الصباحات على صخب خارجي لا يستطيع الهرب منه حتى في نومه، فقد رحل أحد جيرانه والشارع بأكمله يقيم سرادق كبير، لا يعير البطل الأصوات أو الحدث أي اهتمام، ولكن ظلت أصوات السرادق على اختلافها حاضرة في خلفية أغلب مشاهد الرواية، فلم يكن السرادق في جوهره سوى تعبير عن حالة الحزن التي كان يعيشها وطن بأكمله في كل منزل فقد شهيد أو لديه جندي لا يعرف مصيره، تسير الحياة اليومية بطبيعتها لكن الحزن يطل من الوجوه ويتسلل من بين الكلمات، كلمات الأغنيات والأفلام والأحاديث الجانبية التي لا تسفر سوى عن شجارات فالجميع يفتش عن شئ يفرغ فيه شحنة الحزن الغاضبة.

يتجاهل الراوي صوت السرادق ليقع فريسة لصوت ذاكرته التي تعيده إلى القرية، إلى أهله، يتذكر والده الذي يرسل له خطابات لاذعة اللهجة تلومه على رسوبه الجامعي، يتذكر حكاية العم وابنه حسين، كان الأخير صديقه الحقيقي الأول والوحيد، الذي رحل هو ووالده في يوم واحد دفاعا عن أرضهم التي أرادت أحد العائلات الاستيلاء عليها.

حادثة مروعة أبعدته عن القرية وأهلها وأورثته شعور بالتخاذل فهو لم يستطع أن يساعدهم سوى باقتراح محاولة للتفاوض قد تنهي هذا الخلاف، ولكن حسين أصر على أن الحقوق لا تقبل التفاوض.

وفي هذا الرفض القاطع يتجلى الفرق بين حسين وبعض الأصوات التي يعكسها الكاتب من خلال اقتراح البطل للتفاوض، فإذا خضع الحق للتفاوض لا يعني ذلك سوى أنه تشكيك مباشر في أحقيتك فيه، وأنك تقدم دليل آخر يؤيد كذبة من يعتدي عليك، ليصبح ظلمه يقين ثابت في قلبه، فالمعتدي يعرف أنه معتدي مهما بدا عكس ذلك وكلما زادت المقاومة ازداد عنفه لأن الحقيقة تتضح جلية أمام عينيه تؤرقه وتنذره بأنه آجلا أم عاجلا خاسر، والتفاوض يساعده على تصديق كذبته.

وبناء على ذلك رفض حسن ووالده هذا الحل فكانت نهايتهم التي شهدتها القرية بأكملها، النهاية المنطقية التي نشاهدها حتى الآن يوميا على شاشات التلفاز كمصير حتمي لأصحاب الحقوق.

لكن في ذلك الزمن وبالنسبة للبطل فقد وضعنا حسين هو وأمثاله ممن يدافعون عن أرضهم ومبادئهم بحياتهم في مأزق حين أدرك البطل أن لا مفر من اشتباك لاسترداد الحق والأخذ بالثأر العالق في رقبته، ولكن كيف يمكنه أن يفعل ذلك وقد ترك كل شئ وهرب من البداية؟ فحين ينظر إلى نفسه من زاوية ما حدث في القرية يدرك أنه تخاذل وحين ينظر من زاوية النكسة يشعر بهزيمة أكبر منه، هزيمة جيل بأكمله.

ومن ذكريات القرية يهرب إلى صخب الجامعة ومظاهرات الطلبة من أصدقائه الذين يمرون عليه ويقذفونه بنظرات ازدراء وسخرية فلا يعيرها أي اهتمام  وكأن العالم أصبح ضده عدا سمير وليلى.

سمير رفيق الجامعة والسكن، واحد ممن فجرت فيهم الهزيمة طاقة للتفاعل مع الأحداث ومحاولة تصحيح الأوضاع حتى وإن لم تكن في يده فيكفيه أن يصرخ برغبته بالكتابة والخروج في المظاهرات، كما كان مثال لمن ترك قرية عاش فيها عالم محدود إلى عالم أوسع، فلم يخرج من القرية خروج المنبهر بالمدينة، بل كان رحيله عنها فرصة للمعرفة والانفتاح على كافة القضايا الإنسانية في العالم.

أما ليلي فهي فتاة جامعية بسيطة جمعت بينها وبين البطل قصة حب حولتها إلى شخص آخر، من فتاة ينتظرها مستقبل مضمون في وظيفة مناسبة وحياة اجتماعية هادئة إلى فتاة شغوفة بالقراءة والمشاركة في العمل العام خاصة بعد الحرب، ولكن ليلى في جوهرها وموضعها الروائي كانت نموذج لمن تفتحت عقولهم على يد بطل الأحداث ثم جاءت الهزيمة لينزوي ويشعر بالذنب تجاه ليلى، نعم فقد تحول إلى مجرم في حقها حين أيقظها من نعيم الجهل يمنيها بأحلام عظيمة ثم جاءت النكسة، هكذا كان يرى دوره في حياتها، ولكن ولسخرية القدر ظلت ليلى على إيمانها بالحلم، إيمان يعمق شعوره بالخيبة، ولكن ألا تعد صحوتها وشعلة الحياة فيها هي الأمل الذي بفضله صمد هذا الجيل؟

لكن ليلى في كل الأحوال لم تستطع أن تتفهم هزيمته، وحده سمير كان يعرف ويفهم ويحاول من فترة إلى أخرى أن يحثه على المشاركة في الأحداث، ويعود به إلى حكاية القرية للوقوف على الحقائق وموقفه منها، مناقشات يدرك من خلالها القاريء للمقال والرواية أن ما حدث في القرية وما تشتعل به المدينة من صخب المظاهرات الجامعية هو وقوف روائي على رغبة مصر في معركة تسترد من خلالها سيناء وهذا أمر لا شك في صحته التي أكدت عليها عشرات المقالات النقدية عن الرواية وأكده بهاء طاهر بنفسه في فيلم تسجيلي بعنوان رحلة بهاء طاهر.

ولكن ظل هناك هدف آخر وهو الوقوف على حالة تشتت عاشها هذا الجيل، فالابن الذي كان يعود للقرية هربا من صخب المدينة وهزائمها لم يستطع أن يفعل ذلك فالقرية مهزومة الآن وتنتظر أن تأتي أخبار النصر من المدينة، من أبنائها الذين أرسلتهم إليها كي يتخلصوا من جحيم الجهل فعادوا بجحيم الهزيمة، كما أشار إلى هزيمة فلسطين التي تعاظمت بهزيمة مصر ولعلها كانت هي المقصودة من الأساس فكما كان يرى سمير الهم واحد.

وبين القرية والمدينة ومحاولات التخلص من الهزيمة تستمر الأحداث وتتقاطع النهايات التي أصبحت تاريخنا الآن، وبين ذلك استطاع طاهر أن يرصد كيف ظلت الهزيمة ندبة في روح هذا الجيل لا تزول، الجيل الذي يرى أنه محظوظ كونه واحد منه رغما عن معاناته في موقف أعلنه واضحا في كلماته للإذاعي فاروق شوشة عقب عودته إلى مصر عام 1998: شرف هذا الجيل أنه ظل يقبض على هذا الحلم كما لو كان يقبض على الجمر، جيل آمن ويؤمن بوطن عربي واحد، بفكرة العدالة الاجتماعية، هذه الأحلام قد بدا في وقت من الأوقات أنها تحولت إلى كوابيس ولكن مازالت بالنسبالي هي نوع من البوصلة التي اهتدي بها في الحياة والكتابة على السواء.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved