حيثيات فوز رواية ميكروفون كاتم صوت بجائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2024

آخر تحديث: الأربعاء 11 ديسمبر 2024 - 11:06 م بتوقيت القاهرة

محمود عماد

أعلنت دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، اليوم، عن منح ميدالية نجيب محفوظ للأدب لعام 2024 للروائي اللبناني محمد طرزي عن روايته "ميكروفون كاتم صوت".

وجاء في حيثيات اللجنة في فوز الرواية بالجائزة:

"اتفقت اللجنة أن رواية 'ميكروفون كاتم الصوت' تستحق جائزة نجيب محفوظ لعام 2024 لما تميزت به من عناصر استعارية ومجاز عميق وشخصيات قوية وأسلوب سردي سهل ممتنع. وإن كانت تتحدث عن لبنان اليوم، إلا أنها خرجت من محدودية المكان والزمان المفترض لتكشف واقعًا إنسانيًا عامًا عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الحلم." سارة عناني، رئيس لجنة التحكيم.

"يقدم محمد طرزي تشريحًا فائقًا للفنية والمهارة السردية للبنان الصغير ذي الجراح الكبيرة. يمسك الروائي بكومة من التفاصيل الفارقة التي تصنع مصيرًا متفردًا لطيف واسع من الشخصيات، التي تتشابه رغم تفرّدها الواقعي والفني وتقارب لبنان الوطن والوجدان في مرحلة صعبة من تاريخه. كل شخصية في هذه المرثية الجميلة رغم فجائعيتها هي لبنان بصورة أو بأخرى. هذه رواية تحاول أن تقوّض أي مركزية أخرى غير مركزية الإنسان وكرامته لمصلحة حزب أو تيار أو سلطة بحكم الأمر الواقع. وحيث يعلو الميكروفون بالصوت في جهة ما تملك أدوات القوة وفرض الهيمنة، فإن أصواتًا أخرى كثيرة ستظل مكتومة لوقت طويل. لذا جاء النص صاخبًا بخطاب مكتومي الصوت. وإذا كانت نهايات أبطالها ليست سعيدة تمام السعادة، فسيكون لمن يقرأ 'ميكروفون كاتم صوت' أن يشاركهم وجدانيا الأسى الذي ملأ قلوبهم، ولكن أيضًا فرصة رؤيتهم وهم يثبتون أن الحياة والحب أقوى من كل الحواجز الحقيقية والمتوهمة." أحمد طيباوي، عضو لجنة التحكيم.

"رواية محمد طرزي 'ميكروفون كاتم للصوت' تقدم لنا لوحة بانورامية من مجتمع بيروت في الفترة من 2018 إلى 2022، أي الفترة التي تحيط بانهيار العملة اللبنانية والانفجار في المرفأ. نتعرف على شخصيات ملونة ومتنوعة، العديد منهم مهمشون، وجميعهم يكافحون لفهم الحياة والبقاء على قيدها في ظل ظروف تزداد صعوبة. يبحثون عن حلول في الأصدقاء، الروابط الطائفية، الدين، الحب، وسائل التواصل الاجتماعي، والهجرة الشرعية وغير شرعية، كل ذلك في خلفية حرفية ومجازية لمقبرة، بدون أي ضمانات في الحياة سواء لمن يبقى أو لمن يصل إلى بلدان أخرى. جميعهم مضطهدون من قِبل قوى سياسية إجرامية ومن قِبل مكبر الصوت الذي يسحق كل الأصوات الأخرى، بينما يتمسكون، بطريقة ما، بالأمل. إنها رواية قوية تظل مع القارئ لفترة طويلة، وإنجاز ملائم ينبغي أن تُقرأ على نطاق واسع." كاي هايكنن، عضوة لجنة التحكيم.

"تجمع رواية محمد طرزي بين استعارة مكبر الصوت كوسيلة للتضليل والقمع واستعارة ناعي الموتى كشاهد على المؤامرات التي تؤدي إلى الموت والدمار، وأيضًا، رغم أنفه، كطرفٍ فيها. فيها شخصيات عميقة ودراما مشوقة، كما يحقق السرد مستوى عالٍ من الدقة في البناء، دون التضحية بالواقعية أو الإبداع. ولغته آسرة وممتعة وعميقة، تعبّر بقوة وعمق عن ثمن السياسة لدى المواطن العربي اليوم." يوسف رخا، عضو لجنة التحكيم.

تمتد المقبرة مجازيًا حتى لتكاد تدفن روح المدينة كلها، وتنعق كافة ميكروفونات ومكبرات التضليل السياسي حتى ليبدو صوت الناعي في عربة الموت الأكثر صدقًا، بل الأكثر بعثًا للابتسام المشفِق بأخطائه اللغوية الفاضحة، وعتاقته كوسيلة إعلام في ظل عهد الإنترنت. ينشأ بطل الرواية في ظل هذا الفضاء السمعي والبصري الذي تنامى على ما يبدو فيما تلا انتهاء الحرب الأهلية بلبنان واتفاق الطائف عام 1989، وتفاقم في ظل ما أسماه بأمراء الطوائف.

تزدهر مدينة الصمت والموت، وتنمو كالحشائش التي تخترق وتشقق القبر المهمل حتى يصبح بطلها مائلًا للتأمل، عاطلًا عن الفعل، مكتشفًا لتواريه وجبنه في أكثر من موقف، عازفًا عن الكلام إلا أندره صدقًا وحماسة ومسا للقلب في صفائه وعنفه. رمادي الوجود أشبه بالأرنب الرمادي الذي يلتصق بباب القفص حتى بعد فتحه عندما قوَّض ذو النفوذ دار عهر توقفت عن الانصياع له، دار عهر باتت دار حكمة ثورية على طريقتها المهمشة الصغيرة بعد فشل الثورة، وملاذًا حاميا للشخصية الرئيسية يلجأ إليها في مآزقه العبثية وأوجاعه في ظل عهر عام. عهر فاجر في جهره بالتضليل وفحش الطغيان عبر مكبرات احتلت محل مصابيح الكهرباء في الشوارع ليحل ظلامًا مفرا ومخرسًا بالمدينة كظلام القبر أو أشد قسوة.

كأن (سلطان) - باسمه المفارق – نصفه أرنب، والنصف الآخر حمامة رمادية وحيدة يراقب مصيرها بين قريناتها البيضاء، تنفلت هاربة من قبضة قط نهم، وتقتنص "الفرصة الأخيرة" وانتصارًا... مؤقتًا ربما، وكما تنبأت أو حدست حبيبته الراحلة.

تمر أحداث الرواية مرورا جانبيًا ممرورا بثورة 17 تشرين وبالكورونا وانفجار بيروت. تلك الأوقات التي حملت لجيل بأكمله فرصة أخيرة للخلاص من سطوة أمراء الطوائف وزعيمهم، كما شهدت على انقضاض النظام القديم مستعيدا ومعاقبا بيروت حد تفجيرها.

ربما تمتد الاستعارة القبرية لتتعدى بيروت إلى بلاد أخرى مرت بفرص أخيرة مشابهة في المنطقة، بل كل وطن غابت عنه الحريات، وظلله استبداد تنكر في تعددية، ونخره الفساد حد العفونة.

قد يُظَن بالكاتب إنه من فرط الوجود الاستعاري الصريح بين دفتي الرواية وتوالد معانيه وأوجهه قد طغى على الحبكة الواقعية المتنامية، وبناء العلاقات وأزمنة الحدث، إلا أن التوازن الدقيق بين هذين العنصرين وتمازجهما المطرد لهو سر من أسرار الرواية وخصوصيتها. بين حس مجازي يرهف الأذن والعين لشوارد الفضاء البصري والسمعي ودلالاته وبين تبلور الأحداث وتنامي أزمة سلطان الحميمة في حبه المستحيل، وصداقاته المتداعية، وغربته في وطن لا يلتفت إليه ولا إلى صوته، ولا يسمح له بدور يكتشف فيه ذاته الخبيئة المتوارية.

قد تتوقع لغة شعرية تحاكي القصيدة البليغة لكن اللغة بسيطة ودارجة وتعمد إلى تكرار مفردات الكلمات وعناصر البيئة المحيطة متتبعة مسارها الوجداني في نفس الشاب، وتكتفي بالتقاط أقل الصفات الظاهرية كطُعم للشعور المتغلغل الفريد ومدعاة للتعلق، كعينيه العسليتين الحزينتين أو الوشمة على رقبة الحبيبة وشكل الوجه كقلب يراه هو. لا تظن غيره يراها على هذا النحو. في رواية تتناول حياة ابن ناعي الموتى حيث يطل مأوى العائلة على المقبرة، يقضي بها جل وقته حافظًا شواهد القبور عن ظهر قلب، ويستيقظ على وقع دق الحفار موسعًا للموتى الجدد كإجراء يومي روتيني، يصبح الكاتب في تحد بنائي مفارق لإبراز وقع صدمة الموت المفاجئة عليه، الحزن بأشكال ودرجات المتفاوتة. تزداد وتيرة الموت بعامة، وباءً وحربًا وهروبًا وتزحف على محيطه الحميم، مرضًا وغربة واستشهادًا باكرًا وتفجيرًا.

يفارق صديق ويموت آخر. وتموت مُحبَّة منتظرة وتموت الحبيبة المستحيلة. يلجأ الكاتب في غير مرة إلى إرجاء الخبر أو أثره. بإعادة ترتيب طفيف للسياق الزمني، لا يحقق فقط تشويقًا أو تعلقًا للقارئ بأسئلة، لكنه يرسِّب ألمًا ويراكم خلخلة وجوده في وطن لا يبخل في ذكر مظاهر وبواعث تفسخه. يقترب تدريجيًا وبقوة من الفقد باعتباره صميم "جوهر الحياة" كما أسمته ماما ريتا، عفاف سابقًا، صاحبة الحانة.

للشخصيات الروائية في "ميكروفون كاتم للصوت"، طال زمنها أم قصر، حضور وأثر وملامح، من الكلب (دوجي) حتى ماما ريتا. ولريتا هواية تبدو غريبة وهي الرسم. لعلها في الأصل كانت تحلم أن تكون فنانة. وتخص إحدى لوحاتها بتقدير خاص وهي لامرأة نصف عارية وذات إصبع كبير جدًا. هي نفسها بقطها البرتقالي وشالها الأحمر تترنح على الشاطئ لوحة لا تقل غرائبية أو تعبيرية عن لوحتها. تلعب ريتا في أحد وظائفها الروائية وكعنصر من عناصر الحبكة دورًا جديرًا بالموت المحكم والمحيط بحيث يتسم فعل النجاة من خلالها بطابع عبثي مقامر.

فعلى سخافة اللوحة في نظر كل من سلطان وحبيبته وداد وسخريتهما منها، يدخلونها كجزء من خطة تحايل لسفره إلى كندا. يبعث سلطان صورة اللوحة لمعرض تشكيلي هناك باسمه لربما تجد قبولًا عند أصحابه باسم النزعات الفنية الغريبة. وعندما يلتقطون الطُعم يسافر سلطان فقط بصحبة هذه اللوحة.

ماتت حبيبته المستحيلة طبقيا أو فلنقل قُتلت، وماتت مُحبته المنتظرة في ألمانيا بفعل الكورونا وأوجاع مشقة اللجوء، حتى الرفيقة المُحتملة مرتهنة – ماتزال - بما تبقى من الوطن، وإن تاقت ودعت إلى الحرية تحت اسم مستعار.

تلعب اللوحة دورًا مراوغًا، ساخرا فكها وموجعا في آن، وفي فضاء ملتبس ومحفوف بالمخاطر، يكاد يكون كونيًا. إن هي إلا انتصارات صغيرة مؤقتة. مايسة زكي، عضوة لجنة التحكيم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved