من السيرة الذاتية إلى التأملات الروحية... كيف قدم نجيب محفوظ رؤيته الإنسانية؟
آخر تحديث: الأربعاء 11 ديسمبر 2024 - 11:03 م بتوقيت القاهرة
محمد حسين
تحل ذكرى ميلاد أديب نوبل نجيب محفوظ، اليوم 11 ديسمبر، فقد وُلد في مثل هذا اليوم من عام 1911 في حي الجمالية العريق، الذي ارتبط وتعلق به قلبه، وعبر عن ذلك بقوله: "هذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً، أشبه بنشوة العشاق. كنت أشعر دائماً بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي".
أثرت أعمال محفوظ الأدبية في أجيال متعاقبة، لم يكن مجرد روائي، بل كان مؤرخاً للروح الإنسانية، ومفكراً عميقاً تجاوزت رؤيته حدود الزمان والمكان. من ثلاثيته الشهيرة إلى "أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، ترك محفوظ إرثاً أدبياً يعكس عبقرية سردية وفلسفية، جعلت اسمه وحضوره لا يغيب.
ولجانب التفرد في عالم الرواية، الذي توج بفوزه بجائزة نوبل في الأدب في إنجاز لم يحققه قبله أو بعده أي كاتب عربي على الإطلاق، قدم نجيب محفوظ في آخر سنواته "أصداء السيرة الذاتية"، والتي تنتمي إلى الكتابات التأملية الفلسفية.
يعد هذا الكتاب من الأعمال التي تميزت بأسلوبها المختلف عن رواياته الطويلة وقصصه القصيرة. صدر العمل عام 1995، ويقدم فيه محفوظ مجموعة من التأملات الذاتية التي تأخذ شكل مقاطع أدبية قصيرة وشديدة التكثيف، تجمع بين الشعر والنثر في إطار فلسفي عميق.
ويمثل هذا العمل تجربة أدبية خاصة، حيث يتناول محفوظ من خلاله أفكاراً تتعلق بالحياة، والموت، والإيمان، والعلاقات الإنسانية، مستعرضاً تأملاته العميقة في الكون والوجود، والتي تتسم بالحكمة المستمدة من خبرة الحياة الطويلة. لم يكن هذا العمل رواية بالمعنى التقليدي، بل هو انعكاس لسيرة ذاتية مجازية، يقدم من خلالها محفوظ رؤيته للحياة بعيداً عن الحبكة الروائية أو الشخصيات التقليدية، والتي نستعرض سطورا منها في التقرير التالي:
- أيامنا الحلوة
يقول: "كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة. وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال. وكان فظاً غليظاً شرساً مستعداً للعراك لأتفه الأسباب. لا يفوت يوم بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبرى حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحي كله. شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماماً، فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة حتى اضطر إلى الاعتزال بسبب مرض قلبه. فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد. وكنت جالسا بمقهى بالحسين عندما فوجئت به مقبلاً يحمل عمره الطويل وعجزه البادي. ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة. وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا، ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب، ثم تنهد وتساءل في حنان: هل تذكر أيامنا الحلوة؟!".
- الأشباح
"عقب الفراغ من صلاة الفجر، رحت أتجول في الشوارع الخالية. جميل المشي في الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف. ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام. وسرحت بصري في متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة. وسرعان ما خيل إلي أن أشباحاً تتحرك نحو المدينة. قلت: لعلهم من رجال الأمن. ولكن مر أمامي أولهم فتبينت فيه هيكلاً عظمياً يتطاير شرر من محجريه. واجتاحني الرعب فوق الصخرة. وتسلسلت الأشباح واحداً في إثر آخر. تساءلت وأنا ارتجف عما يخبئه النهار لمدينتي النائمة".
- حمام السلطان
"حلمت مرة أنني خارج من حمام السلطان. تعرضت لي جارية ودعتني إلى لقاء سيدتها. ومالت بي في الطريق إلى حجرتها لتهيئني للقاء كما يملي عليها واجبها، وألهاني التدريب عن غايتي حتى كدت أنساها. ولما وجب الذهاب، ذهبت إلى السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية، ووقفت بين يديها منهزماً وقد علاني الصدأ. هكذا تحول الحلم إلى كابوس. وكان لا بد من معجزة لتشرق الشمس من جديد".