د. منى النموري تكتب: دخل الربيع يضحك.. ما بين إليوت وجاهين
آخر تحديث: الأحد 15 ديسمبر 2024 - 2:11 م بتوقيت القاهرة
في كلمتها على مسرح الأوبرا في العرض الأول لفيلم "دخل الربيع يضحك"، الذي حصد أربع جوائز من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2024، قالت نهى عادل الكاتبة والمخرجة عن الفيلم، وهو فيلمها الروائي الطويل الأول: "الفيلم بسيط، ولذلك لا داعي للكلام عنه، الحاجة البسيطة الأفضل نشوفها!" وكنت أعلم من قلب المطبخ أنه ليس بالفيلم البسيط رغم بساطته وواقعية مشاهده، بل وواقعية ممثليه. فالغالبية الساحقة منهم ليسوا محترفين، ومع هذا فقد تم اختيار كل منهم بعناية فائقة، وعلى مدار سنوات طويلة من الكتابة وإعادة الكتابة والاختبارات والتدريبات، ثم التصوير الذي خططت المخرجة أن يكون واقعياً وأصيلاً. حتى الوجوه التي ظهرت في الخلفية ولم تنطق حرفاً، كان وجودها هاماً وظهورها على الشاشة تعبيراً أصيلاً.
بحكم أنني ناقدة أدبية، فأنا رغماً عني أنظر إلى جماليات الكتابة وليس السينما، وبحكم أنني شاركت بالتمثيل في إحدى الحكايات الأربع للفيلم، فقد أكون على مسافة أقرب قليلاً من المضمون رغم أنني لم أرَ الفيلم مكتملاً إلا في يوم العرض الأول مثل بقية المشاهدين. أربعة حكايات يغلفها الربيع بغلاف خارجي يبدو مشرقاً حتى تشاهد الحكايات، وتجبرك المخرجة النابهة أن تصبح جزءاً من نسيجها، وتتخذ مواقف داخلية أثناء تصاعد الأحداث، ثم تنتهي المشاهدة وتذهب إلى بيتك مصحوباً بهن جميعاً. وتنام وتستيقظ وأنت لا تزال تفكر: ماذا لو كنت مكانهن؟
تتلمذت نهى عادل، خريجة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، على أيدي العظماء من الأساتذة أمثال فاطمة موسى ومحمد عناني، شيوخنا الأجلاء ورموز ثقافة مصر في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. درست الأدب الغربي داعماً لحبها الطبيعي للأدب العربي، وملأها الولع بالسينما العربية والغربية. السينما كتعبير فني حديث يشمل أغلب الفنون الإبداعية من الكلمة والصورة والموسيقى، والأهم من وجهة نظري هو المونتاج أو ترتيب "الرواية البصرية" التي تود نهى ككاتبة ومخرجة نقلها أو بالأحرى تفجيرها في وجه المشاهد.
تستخدم نهى عادل في فيلمها الفائز دخول الربيع في سخرية لاذعة. فعكس المتعارف عليه من أن الربيع يحيي الأرض الميتة ويعدنا بتجدد الحياة، نجدها تعرض لنا نماذج من بشر يسيرون موتى في حياة المدينة القاسية. يتكالبون على كافة مستوياتهم الاجتماعية على الماديات التي لا تجلب لهم سوى التعاسة. يملأهم التفاخر على اللا شيء، ما بين عمليات التجميل التي ترفع ما ترفع وتبسط ما تبسط، والمدارس الأجنبية للأولاد، والخواتم الماسية أو العلاقات مع "الناس المهمة" وشكل الأفراح بتشكيلات وصيفات العروس وملابسهن، وغيرها مما تتصارع عليه الشخصيات في الفيلم.
تأتينا أصوات الشخصيات في الحكايات واثقة من مواقعها المغلوطة في الحياة، بشكل مفاجئ يذكرني بقصيدة الشاعر الأمريكي ت. س. إليوت "أرض الخراب"، والتي يبدأها بالسطر الشهير "أبريل أقسى الشهور". ولماذا هو قاسٍ؟ لأنه يعذب الموتى بدفعة مؤقتة من الحياة، لكنها تؤكد موتهم بلا رجعة! فالأنماط البشرية التي نراها في شخصيات الفيلم إلا من رحم ربي، هي أنماط عصبية، متحفزة، مليئة بالأحكام المسبقة والرغبة في الانقضاض على بعضها البعض مهما كانت درجة القرب. تعميها رغبة التسلط والتحكم في الآخرين حتى ولو أقرب الأقربين. السائد الأعظم في كل الحكايات هو "العُصابية"، تماماً مثل الأصوات التي نسمعها لشخصيات "أرض الخراب" لقصيدة إليوت، والتي احتار القراء فيها لمائة عام، ولا تزال تحتاج لتفسير وشروحات وهوامش.
وإمعاناً في مزج الرموز الثقافية المختلفة، والتي تعكس تنوع ثقافتها، تختار نهى عادل رمزاً شعرياً عربياً عريقاً وهو صلاح جاهين، آملة أن يرشد تفكير المشاهد أثناء العرض. ففي الحكاية الأولى يقدم فيها الجار المسن باقة من الزهور لجارته، وتستعرض فيها الجارة حبها لرباعية جاهين وهي تلقي بالأبيات:
دخل الربيع يضحك لقاني حزين
وتستعرض بعدها نهى عادل الحكايات وهي تنتقل من صوت إلى آخر. نسمع ضحكاتهم في البداية ثم نراهم يمسكون في رقاب بعضهم البعض دون أن نرى دماءً، بل نرى قلوباً تنفطر ثم تنقفل على ما بها. لننتهي في حكاية "الفرح" بباقة أزهار أخرى في يد العروس التي تتزوج رغماً عن رغبة قلبها. باقة تأتيها ذابلة، وكأنها تزفها إلى قبرها وليس إلى حياة جديدة تعمر بها بيتاً.
نهى عادل في فيلمها "دخل الربيع يضحك" ترينا أمواتاً سائرين يزيدهم الربيع مواتاً ويؤكد خسارتهم للأبد. كافة أبطال "دخل الربيع يضحك" ممن يعملون في مهن غير التمثيل، باستثناء كارول العقاد دارسة المسرح والرقص التعبيري. أتى كل منهم بخلفية ثقافية وحياتية متنوعة. كلهن/كلهم دربتهم نهى بصبر وتؤدة، أخرجت أجمل ما فيهم، ناقشتهم طويلاً في الدور، جعلت كل منهم ينظر على دوره وعلى حياته بمنظور مختلف. جعلتهم ينقبون في حيوات الشخصيات التي "يمثلونها" على الشاشة، في بحث يشبه تنقيب الآثار.
وبجانب نهى، وقفت كوثر يونس، المخرجة والمنتجة المبدعة، مؤمنة برؤية نهى الفنية وداعمة لها حتى تتحقق وتخرج للنور. فكم من الرؤى العظيمة تم وأدها لأنها لم تجد الدعم الكامل.
أعود إلى إشارتي للمشاركة في التمثيل في فيلم "دخل الربيع يضحك". الحق أنه لم يكن العمل الأول مع نهى عادل، بل هي صاحبة اقتراح التمثيل في 2017، والذي أخرجني متطوعة من غرفة مكتبي ومحاضراتي إلى كاميرا الشارع حيث تدور الأحداث في فيلمها القصير الأول كتابة وإخراجاً: "مارشدير". فيلم حصد عدداً كبيراً من الجوائز المحلية والعالمية، بالإضافة إلى قيمته الجمالية على مستوى الكتابة أو الإخراج، والتي تأكدت بجوائز مهرجان الأقصر 2018، وميلانو 2018 وغيرها.
مثل الحكايات الأربع، تقدم لنا نهى عادل في "مارشدير" لحظة يتصاعد فيها العنف والتوتر في الشارع، لنكتشف أن توتر الشخصيات ليس المقصود به اللحظة الراهنة، بل هو تراكم قديم وهروب من مواجهة أزمات شخصية. وتدعونا للتفكير: ماذا لو كنا مكانهم؟ هنا تماماً تكمن التجربة الخاصة لكل من شارك في التمثيل، وهو المبدأ الذي يقوم عليه مبدأ "السايكودراما".
في التمثيل، تُتاح لك الفرصة تماماً أن تكون مكان الشخصية التي تمثلها. تتعايش معها، تتقمصها، تطرح تساؤلات حول خلفيتها، دوافعها، الجوانب المخفية في حياتها والتي لا تظهر على الشاشة. لا تراها العين، لا تنقلها الكلمات. أليست هذه حياة كل منا في الواقع؟ أليس ما يظهر من كل منا للناس هو فقط جبل التلج؟ أليس هذا ما ينقله لنا إليوت في قصيدته "أرض الخراب"؟ وعلى القارئ أن يفك الشفرة؟ أليس هذا هو الاختزال البديع ما ينقله لنا جاهين في رباعياته؟ ويترك لنا الهوامش لنملأها بقصصنا نحن؟
إنه الفن الحقيقي يا سادة!
ما بين ت. س. إليوت وصلاح جاهين تقف نهى عادل في تجاربها السينمائية الأولى لتعلن عن كتابة جريئة شفيفة، كتابة بالكلمات وبالزوايا والتفاصيل والموسيقى. كتابة "هجينة" تستفيد من التنوع الثقافي والملاحظة الحياتية الدقيقة لفنانة أصيلة.