رواية ذات لصنع الله إبراهيم.. أيقونة روائية نادرة عكست ملامح التحول فى الشخصية المصرية
آخر تحديث: الجمعة 16 مايو 2025 - 7:28 م بتوقيت القاهرة
أسماء سعد
نموذج سردى فريد يمزج بين الواقع والخيال لرصد الظواهر المجتمعية
تجربة روائية متفردة، أجادت توظيف أدوات السرد لخدمة رؤية نقدية واجتماعية عميقة، رواية «ذات» لصنع الله إبراهيم، التى كشف فيها الكاتب القدير عن موهبة فذة فى تقديم الحكاية الشخصية باعتبارها حكاية وطن، فقد ظلت رواية «ذات» واحدة من العلامات المضيئة فى الأدب العربى الحديث، لما تحمله من صدى ذاتى وجمعى فى آنٍ واحد.
رواية «ذات» للأديب المصرى الكبير صنع الله إبراهيم تُعد واحدة من أبرز المحطات فى مسيرته الإبداعية، ضمن أهم ما كُتب فى الرواية الاجتماعية العربية خلال العقود الأخيرة؛ حيث قدمت الرواية نموذجًا سرديًا فريدًا، استطاع من خلاله الروائى أن يمزج بين السرد التخيلى والتوثيق الواقعى، فى معالجة أدبية لما شهده المجتمع المصرى من تحولات اجتماعية واقتصادية منذ خمسينيات القرن الماضى حتى مشارف القرن الحادى والعشرين.
تمثل «ذات» نموذجًا دالًا على التقاء الروائى بالتاريخى، والذاتى بالجمعى، فقد اختار صنع الله إبراهيم شخصية «ذات» ــ وهى امرأة مصرية عادية ــ لتكون بؤرة السرد ومرآة تعكس التغيرات البنيوية التى طرأت على المجتمع المصرى، وبدلًا من البطل الروائى التقليدى، تتقدم «ذات» كأنثى تنتمى إلى الطبقة الوسطى، تجرّها الحياة اليومية بين العمل والزواج والأمومة، لكنها فى الوقت نفسه تُلقى بظلال من العمق على قضايا المجتمع.
هذا الاختيار فى حد ذاته ينطوى على منحى فنى جديد، يعكس توجه صنع الله إبراهيم لتكريس مفهوم «الرواية بوصفها وثيقة اجتماعية»، لا تكتفى برصد المأزق الفردى، وإنما تنفذ إلى قلب المأزق الجمعى، وقد كان من السمات اللافتة فى «ذات» اعتماد السرد على التوثيق المدقق الذى يعكس حال المجتمع المصرى.
التضمين التوثيقى لا يأتى كعنصر شكلى أو جمالى، بل كجزء عضوى من البنية السردية، وهو ما يخلق نوعًا من الحوار بين اليومى والوطنى، بين الذاتى والتاريخى. وتظهر قدرة صنع الله إبراهيم الفائقة على اقتناص ما هو عابر فى حياة أبطاله وتحويله إلى مدخل لفهم أعمق لحركة المجتمع.
أسلوب صنع الله إبراهيم فى هذه الرواية يتسم بالاقتصاد اللغوى والدقة الوصفية، بعيدًا عن الإنشاء المتكلف أو التزيين البلاغى. فجمله قصيرة، لكنها مشحونة بالمعنى، ويعتمد فى كثير من الأحيان على مفارقات دلالية بين ما تعيشه «ذاتى وبين ما يُذاع ويُنشر فى الإعلام، مما يُنتج مفارقة فكرية تعزز من التوتر الدرامى.
كما يتخلل النص الروائى تقنيات سردية غير تقليدية، أبرزها التقطيع الزمنى والتداخل بين الحلم والواقع، وبين الاسترجاع والاستباق، مما يمنح الرواية طابعًا سينمائيًا. فالقارئ لا يقرأ فقط، بل يشاهد ويعاين حياة «ذات» بمختلف تجلياتها: طفولة، مراهقة، زواج، أمومة، ثم شيخوخة، وهى حياة تسير متوازية مع أحداث عامة مثل الانفتاح الاقتصادى، وظهور القنوات الفضائية، وتغير قيم المجتمع.
لم تكن «ذات» مجرد شخصية محورية تدور حولها الأحداث، بل كانت رمزًا متعدد الأبعاد. فهى تمثل المرأة المصرية التى عاشت تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وتكشف عبر مسيرتها الشخصية ملامح الانكسار والتمرد والصمت والتأقلم. كما أن اسمها نفسه ــ «ذات» ــ يحمل دلالة فلسفية، فالكاتب يُشير من خلاله إلى الذات الإنسانية فى علاقتها بالآخر، وبالسلطة، وبالزمن.
وفى تصريحات سابقة للكاتب، أشار صنع الله إبراهيم إلى أن «ذات» كانت فى مخيلته رمزًا للمرأة المناضلة، غير أن تطور السرد جعل منها النموذج السائد للمرأة المصرية، التى تدخل فى معارك صغيرة يومية، تنفّس بها عن ذاتها فى ظل تحديات الحياة. وهذا التحول من النموذج المثالى إلى الواقعى يضفى على الرواية طابعًا إنسانيًا ملموسًا يجعلها قريبة من القارئ.
من خلال «ذات»، يرسم الكاتب صورة بانورامية للمجتمع المصرى فى نصف قرن. نقرأ عن تفاصيل الحياة اليومية، مشكلات السكن والعمل، التغيرات فى الذوق العام، والتعليم، والإعلام، وعلاقة المواطن بالمؤسسات. لكن كل ذلك لا يأتى فى شكل مباشر أو وعظى، بل يتسلل من خلال حياة امرأة واحدة، تعيش ما يعيشه الملايين، بصمت، ثم بقلق، وأحيانًا بتساؤل داخلى.
رواية «ذات» لا تكتفى بكونها عملًا روائيًا ناجحًا من حيث البناء والشخصيات، بل تتجاوز ذلك إلى كونها شهادة فنية على فترة حاسمة من تاريخ مصر. وهى من الأعمال التى استطاعت أن تجد صدى إيجابيًا واسعًا بين النقاد والقراء على نحو متفرد.
مثلت رواية «ذات» أكثر من مجرد رواية عن امرأة مصرية عادية، بل هى سجل سردى مفتوح لتحولات مجتمع بأكمله، تتداخل فيه الذات الفردية مع الذاكرة الجماعية. بأسلوب متماسك وجرىء فى توظيف الوثيقة والتفصيل اليومى، فقد وضعنا صنع الله إبراهيم أمام مرآة صادقة تعكس تعقيدات الإنسان المصرى فى ظل التغيرات الكبرى.