صندوق الأمن القومي البريطاني.. هل يصبح الاستثمار في الشركات الناشئة سلاح بريطانيا الجديد في مواجهة التحديات الجيوسياسية؟
آخر تحديث: الخميس 17 يوليه 2025 - 10:49 ص بتوقيت القاهرة
وكالات
كشفت الحكومة البريطانية عن تفاصيل جديدة بشأن "صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي (NSSIF)"، والذي يرتبط بشكل غير معلن بأجهزة الاستخبارات البريطانية، بما في ذلك جهاز الأمن الداخلي (MI5)، والاستخبارات الخارجية (MI6)، ومقر الاتصالات الحكومية (GCHQ)، حسب ما أوردت مجلة "بوليتيكو".
وذكرت المجلة في نسختها الأوروبية، أن الحكومة البريطانية تخطط لضخ 330 مليون جنيه إسترليني إضافية في ميزانية الصندوق على مدى أربع سنوات، مشيرة إلى أن هذه الأموال ستعزز قدرته على "الاستثمار في شركات تلبي متطلبات أمننا القومي ودفاعنا".
وقالت الحكومة إن ذلك يأتي في إطار التركيز المتجدد على "التقاطع بين التقنيات ذات الاستخدام المزدوج والأمن القومي والمرونة مع تكثيف التعاون الدولي لتحقيق التفوق التكنولوجي".
وفي المقابل، سيعزز صندوق الأمن القومي حضوره العام، حيث سيعين مسؤولاً للتواصل وسيشارك في المزيد من الفعاليات العامة، وفقاً لـ"بوليتيكو".
صندوق الأمن القومي.. عودة مقصودة
وقال أشخاص مطلعون على عمل الصندوق لـ"بوليتيكو"، إن ظهوره بعد فترة من التخفي النسبي في وقت يشهد توترات جيوسياسية متصاعدة وتغيراً تكنولوجياً سريعاً ليس مصادفة.
وذكروا أن هذا لا يعكس فقط إجماعاً متزايداً على أن الصراعات المستقبلية ستُشكلها تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، حيث تستخلص الحكومات الدروس من الحرب في أوكرانيا، بل إن الميزة العسكرية والنمو الاقتصادي يعتمدان بشكل متزايد على تبني أحدث الابتكارات.
وأضافوا أن الجمع بين استراتيجية الصندوق المتمثلة في وضع رهانات تجارية استراتيجية وتذليل العقبات أمام الشركات الناشئة، يُمثل نموذجاً يُحتذى به لمواجهة التحدي الدائم الذي تواجهه بريطانيا، والمتمثل في تحويل شركاتها الناشئة الواعدة إلى شركات رائدة راسخة.
(NSSIF).. ما هو وكيف يعمل؟
وذكرت "بوليتيكو" أنه "عندما تم تأسيس صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي (NSSIF) في عام 2018، كان العالم يشهد بداية مرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي على التفوق التكنولوجي، وسط مخاوف متزايدة في الغرب من فقدان الريادة لصالح خصوم استبداديين"، حسب تعبيرها.
وقال إدموند فيليبس، الشريك الاستثماري الأول في الصندوق، خلال فعالية في لندن هذا الشهر، إن تلك الفترة شهدت إدراكاً متنامياً بأن "الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية تواجه تحدياً حقيقياً في الحفاظ على تفوقها التكنولوجي".
ويُعد أنتوني فينكلشتاين، خبير الأمن السيبراني والمستشار العلمي السابق للحكومة البريطانية للأمن القومي، هو صاحب الفكرة الأصلية وراء إنشاء الصندوق، انطلاقاً من قناعة بضرورة تسريع تبنّي الابتكار التقني لخدمة الأمن القومي البريطاني.
وفي تصريح لـ"بوليتيكو"، قال فينكلشتاين: "كنت مهتماً جداً بطرق أفضل تُمكّن منظومة الأمن القومي في المملكة المتحدة من الابتكار بشكل أسرع وبفعالية أكبر... واستخدام ذلك أيضاً كرافعة لنمو المملكة المتحدة"، موضحاً أن تفكيره تأثر بصندوق In-Q-Tel، وهو (صندوق الاستثمار التكنولوجي التابع للاستخبارات الأميركية) ويهدف إلى ربط وكالة المخابرات المركزية بالتكنولوجيا الجديدة.
وبعد محاولة فاشلة لإنشاء صندوق مشترك مع الولايات المتحدة وأستراليا، تأسس (NSSIF) بقيادة وزير المالية المحافظ فيليب هاموند كمشروع مشترك بين الحكومة وبنك الأعمال البريطاني.
ويوضح مستند توجيهي صدر عام 2020 أن صندوق (NSSIF) يستثمر تجارياً في شركات التكنولوجيا المتقدمة إلى جانب مستثمرين مشاركين"، داعماً بذلك استثمارات الأسهم طويلة الأجل- "رأس المال الصبور"- ومستفيداً من الخبرة التكنولوجية الفريدة للحكومة.
وتشمل أهداف الصندوق إلى تسريع اعتماد قدرات الحكومة المستقبلية في مجال الأمن والدفاع الوطني، وتطوير منظومة التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج في بريطانيا.
وإلى جانب توجيه بعض الأموال إلى صناديق رأس المال الاستثماري الأخرى، يستثمر صندوق (NSSIF) في أسهم شركات ناشئة تُعتبر أساسية لتلبية الاحتياجات السيادية للمملكة المتحدة. كما يُدير "برامج عمل" لتسريع تطوير النماذج الأولية وتجربة التكنولوجيا في مؤسسات الحكومة.
الخروج إلى العلن
ويأتي توسيع دور صندوق (NSSIF) في الوقت الذي تُصر فيه بريطانيا وحلفاؤها في الناتو على تسريع وتيرة استخدام أحدث التقنيات في الخطوط الأمامية في أعقاب الحرب في أوكرانيا.
وفي قمة عُقدت في يونيو، اتفق قادة حلف الناتو على "تسريع وتيرة اعتماد الحلف للمنتجات التكنولوجية الجديدة بشكل كبير، وبشكل عام في غضون 24 شهراً كحد أقصى"، بحسب موقع الشرق الاخباري.
كما أن التوترات الجيوسياسية، بما في ذلك استغلال الصين لسلاسل التوريد وتهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التجارية، قد دفعت المخاوف بشأن السيادة وضمان الوصول إلى التقنيات الحيوية إلى الواجهة.
وأوضح فينكلشتاين أن ذلك أجبر مسؤولي الأمن القومي، على إدراك أن الحفاظ على التفوق التكنولوجي يتطلب بناء روابط نشطة مع القطاع الخاص.
وفي الوقت نفسه، أصبحت شركات التكنولوجيا أكثر انفتاحاً على العمل مع وكالات الدفاع والاستخبارات وسط تصاعد التوتر الجيوسياسي- وزيادة تاريخية في الإنفاق الدفاعي.
وتُجري وزارة الدفاع إصلاحاتٍ جذرية في آلية شراء التكنولوجيا، بما في ذلك إنشاء وحدة مُخصصة للابتكار الدفاعي، في حين أعلنت وزارة العلوم والابتكار والتكنولوجيا البريطانية الشهر الماضي أنها ستعمل بشكل أوثق مع وزارة الدفاع "لتطوير القدرات الابتكارية اللازمة لإنجاز المهام بسرعة، وتعزيز قطاع تكنولوجيا دفاع بريطاني مزدهر ورائد عالمياً".
وفي خطة طويلة الأجل صدرت الشهر الماضي، أكدت وزارة العلوم والابتكار والتكنولوجيا أن دعم التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج من خلال تحسين استخدام المشتريات وزيادة حصة تمويل البحث والتطوير لن يُعزز أمن المملكة المتحدة فحسب، بل سيُفيد قطاع التكنولوجيا الأوسع فيها أيضاً.
كشفت شركة هيلسينج (Helsing)، المتخصصة في الذكاء الاصطناعي الدفاعي، عن غواصات مسيّرة من طراز SG-1 Fathom، تابعة للبحرية البريطانية، ومجهزة بنظام Lura.
وفي الأسبوع الماضي، طلبت وزارة الأمن الداخلي البريطانية (DSIT) من المعهد الوطني للذكاء الاصطناعي في بريطانيا إعادة تركيز عمله على الأمن والدفاع، بعد إعادة تسمية معهد سلامة الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة إلى "معهد أمن الذكاء الاصطناعي" في وقت سابق من هذا العام.
حدود النجاح
في الولايات المتحدة، استحوذت شركات مثل جوجل وأمازون على شركات ناشئة تدعمها شركة In-Q-Tel، أو نمت لتصبح شركات عملاقة مثل Palantir.
ومع توسع صندوق (NSSIF) في عمله، يمكنه أن يخضع لتدقيق أكبر لسجله من قبل الوزراء والجمهور. لكن وزارة الأمن الداخلي ذكرت في بيان صحافي صدر مؤخراً أن الصندوق دعم عدداً من الشركات الناشئة التي أصبحت قيمتها بمليارات الدولارات، مما أدى إلى استقطاب الاستثمارات الخاصة وخلق فرص عمل.
لكن خمسة أشخاص مقربين من (NSSIF) قالوا إنه على الرغم من نجاحه، إلّا أنه ليس حلاً سحرياً للقضايا العميقة التي تواجهها الشركات الناشئة في بريطانيا.
وفي يونيو، قبلت شركة Oxford Ionics الناشئة صفقة استحواذ بقيمة 1.1 مليار دولار من شركة IonQ الأميركية، وهو ما وصفه البعض بأنه مثال آخر على انتقال الشركات البريطانية الناشئة الواعدة إلى الخارج. رغم أن Oxford Ionics تقول إنها تخطط للإبقاء على قاعدة أبحاثها في بريطانيا.
لكن من المتوقع أن تُعيد الصفقة ملايين الجنيهات الإسترلينية إلى خزينة الدولة، بعدما كان (NSSIF) يمتلك حصصاً في الشركة، التي تعمل على تطوير أنظمة الحوسبة الكمومية.
وقال سولي، من شركة Advai، إن هذه النوعية من الصفقات التجارية هي التي ينبغي أن يبرمها الصندوق، بحيث يُعاد استثمار العوائد لدعم الجيل القادم من رواد الأعمال.
وأضاف سولي أن ما يميز (NSSIF) هو تركيزه الواضح على الجانب التجاري، معتبراً أن ذلك يعكس "مصلحة الحكومة البحتة"، وهو أمر - بحسب وصفه - ستحتاج بريطانيا إلى التكيّف معه مع توسع أنشطة الصندوق. وتابع: "لسنا بارعين في تحقيق المصلحة الذاتية كما تفعل الولايات المتحدة".