في ذكرى رحيل ساراماغو.. أسئلة العمى التي لم تمت

آخر تحديث: الأربعاء 18 يونيو 2025 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

محمود عماد

قبل 15 عاما، في مثل هذا اليوم، أسدل الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو الستار على حياة امتدت قرابة تسعة عقود، قضاها في منازلة أسئلة الوجود والسلطة والإيمان والعدالة بسخرية فلسفية، ولغة خارجة على المألوف.

ولد ساراماغو في 16 نوفمبر عام 1922، ورحل في 18 يونيو عام 2010، وترك وراءه إرثا يضعه في مصاف أعظم كتاب القرن العشرين، وأبرز أعماله روايته الاستثنائية «العمى»، التي ما زالت تقرأ كتحذير مرير قد نبصر بعينينا، لكننا كثيرًا ما نعجز عن رؤية أنفسنا.

مرض بلا اسم.. وعدوى لا شفاء منها

نشرت «العمى» لأول مرة عام 1995، بعد فترة من التحولات الكبرى في أوروبا والعالم؛ سقطت أنظمة وتوحدت دول وانقسمت أخرى، لكن الإنسان بقي كما هو هشا أمام مخاوفه وغرائزه.

في هذه الأرضية الفلسفية بنى ساراماغو عالمه الكابوسي مرض غامض يصيب الناس فجأة، لا لون له سوى «بياض كالحليب».

الرجل الأول الذي يفقد بصره ينقل العدوى بلا قصد، ثم يفقد المجتمع توازنه أمام وباء لا دواء له، فتقرر السلطات الحجر الصحي، لكن الحجر لا يوقف العدوى بل يكشف الوحش الكامن في أعماق البشر.

امرأة ترى.. وشهادة مؤلمة

الشخصية المحورية هنا ليست بطلة خارقة، بل امرأة عادية زوجة طبيب العيون الذي فقد بصره مع المصابين. وحدها من بين الجميع لم يصبها العمى، لكنها اختارت أن تدعي العمى لتبقى مع زوجها في الحجر.

ما تراه هذه المرأة يكفي لأن يعمينا عن أنفسنا بشر يتقاتلون على الطعام، يسرقون، يغتصبون، يقتلون، ينحدرون بلا رادع. في لحظة يسأل القارئ نفسه هل نحن بحاجة حقا إلى الضوء، أم إلى ضمير يبصر؟

أسلوب خارج القواعد.. وفلسفة تزعج القارئ

حين يفتح القارئ رواية «العمى» يجد نفسه أمام كتابة لا تشبه السرد التقليدي لا فصول محددة، لا علامات اقتباس للحوار، لا توقف لالتقاط الأنفاس.

هذا الأسلوب مقصود تماما، إذ أراد ساراماغو أن يضع قارئه وسط الفوضى نفسها التي تعيشها شخصياته، فيشعر بالتيه والحيرة.

وفي قلب هذا التكنيك يكمن سؤال ساراماغو الأكبر ماذا لو انهار ما اعتبرناه نظاما طبيعيا للحياة؟ هل نحن بشر حقا أم حيوانات تخاف من بعضها وتعيش على حساب بعضها؟

رمزية تتجاوز المرض

«العمى» ليست فقط قصة عن مرض متخيل، بل استعارة متعددة الأوجه عن العمى الأخلاقي، عن الجهل، عن التواطؤ مع الظلم، عن الصمت حين يصبح الكلام خطرا.

وحين يصر ساراماغو على ألا يعطي أسماء لشخصياته، فكأنه يقول كل إنسان هو هذا الأعمى المحتمل، كل إنسان قد يكون هذه المرأة التي ترى ولا تستطيع أن تمنع الخراب وحدها.

رواية ولدت قبل الأوبئة وأعادت الأوبئة قراءتها من جديد

بعد أكثر من عشرين عاما على صدورها، حين اجتاح العالم فيروس كورونا، عادت «العمى» إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا، الناس قرأوها هذه المرة ليس كخيال أدبي، بل كمرآة مؤلمة.

صرنا نفهم كيف يخاف الناس بعضهم، وكيف يمكن للعزلة والحجر أن يكشف أسوأ ما فينا، وكيف يصبح التكاتف ضرورة لا رفاهية، بل إنه مع كل أزمة للعالم أو صراع عسكري، تعود رواية «العمى» لتطل علينا بفوضاها لتطرح علينا سؤالا، وهو ما هو النظام من الأساس؟

ساراماغو.. الكاتب الذي رأى أكثر مما ينبغي

خوسيه ساراماغو لم يكن يسعى لإرضاء القارئ أو لنهايات سعيدة. كان يؤمن أن الأدب يجب أن يزعج، أن يهز وعينا، أن يجعلنا نشك في المسلمات.

هكذا كتب «العمى»، وهكذا كتب «الطوف الحجري» حين تخيل أن ينفصل شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) عن أوروبا وتبحر وحدها في المحيط، وهكذا كتب «الإنجيل يرويه المسيح» الذي أثار ضجة كبرى بسبب تأويله غير التقليدي لسيرة المسيح، ونوبل التي نالها عام 1998 لم تضف كثيرا إلى قيمته الأدبية، بقدر ما منحت العالم فرصة أكبر ليقرأه بلغات أكثر.

رسالة «العمى» التي لا تموت

بعد كل هذه السنوات تبقى رواية «العمى» درسا عميقا مفاده أنك قد تفقد عيناك النور يوما، لكن الأخطر أن تفقد إنسانيتك، وكأن ساراماغو يهمس لما بين صفحاتها بأنه يجب علينا أن لا نخاف من العمى الذي يذهب الأبصار، بل من العمى الذي يذهب إنسانية القلوب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved