الأسير الفلسطيني المحرر أيهم كممجي لـ«الشروق»: مصر الحضن العربي الدافئ الداعم لقضيتنا.. وستبقى بوصلتنا نحو الحرية والوحدة
آخر تحديث: الأحد 19 أكتوبر 2025 - 1:33 م بتوقيت القاهرة
حوار - ليلى محمد
- كل الاحترام والتقدير لأم الدنيا قيادة وشعبا
- حريتي ممزوجة بالفقد لأن اثنين من أخوتي أستشهدا واثنين أخرين مازالا في الأسر
- لم أصدق أنني خرجت فعلاً من بين أنياب الوحش.. والانتصار لم يكن حظًا وإنما ثمار إرادة شعب ومقاومة لا تعرف الانكسار
- سنوات الأسر كانت مدرسة في الصبر والإيمان والمعرفة
- أشعر بالعجز والخجل أمام معاناة جميع الأسرى في سجون الاحتلال
- تجربة نفق الحرية كانت ثمرة جهد وطني فلسطيني خالص شارك فيه أبطال مجهولون
لم يخرج الأسير الفلسطيني المحرر أيهم كممجي من سجنٍ عادي، بل من أعماق تجربة تتجاوز حدود الجدران والقيود. أكثر من تسعة عشر عاما عاشها كممجي بين الزنازين، لكن لم يستطع السجن أن يقيّد فكره أو يسرق صوته.
في حواره مع "الشروق"، روى كممجي بعض تفاصيل تلك السنوات الثقيلة، وعبر عن مشاعره لحظة الإفراج، كان صوته هادئًا كمن يحاول التصالح مع الوجع، لا يتحدث عن ذاته كثيرا، بل عن الآخرين الذين ما زالوا هناك، في سجون الاحتلال، يعيشون المعاناة نفسها.
• صف لي مشاعرك لحظة الإفراج عنك عقب تسعة عشر عاما من الأسر؟
في البداية لم أصدق أنني خرجت فعلاً من بين أنياب الوحش. فقد كانت فرحتي ممزوجة بالدهشة والخوف. دون مبالغة لقد شعرت أنني خرجت من "كماشة" لا ترحم، من بطن الحوت، من عالمٍ سُحقت فيه الأرواح قبل الأجساد. ولم أستوعب حريتي إلا حين بدأت الصورة تتضح أمامي شيئًا فشيئًا، وحين تذكرت أن ثمن هذه اللحظة دُفع من دماء شعبي وصموده، فهدأت الغصّة وسكنت نفسي احترامًا لذلك الثمن العظيم.
لقد كنت برفقة زملائي سنخرج من تحت الأرض، لكن المقاومة اليوم ـ ورغما عن أنف الاحتلال ـ جعلت السجان يفتح الأبواب ويُخرجنا. فالانتصار لم يكن حظًا، وإنما ثمار إرادة شعبي ومقاومة لا تعرف الانكسار.
• كم كنت تبلغ من العمر عند اعتقالك؟، وكم عام قضيت في الأسر؟
كنت في العشرين من عمري حين أُسرت، وقضيت ما يقارب تسعة عشر عامًا خلف القضبان. واليوم خرجت وأنا على مشارف الأربعين، فهي سنواتٌ ليست بالقليلة، لكنها كانت مدرسة في الصبر والإيمان والمعرفة.
• هل كنتم تتابعون ما يجري خارج السجن على مدار العامين الماضيين؟
لقد كنا جميعا مغيّبين تمامًا عن العالم الخارجي، لا نعرف ما يحدث حولنا. حتى المحامون الذين كانوا يزوروننا لم يكونوا ينقلون الصورة الحقيقية، ربما خوفًا أو تهديدًا.
لقد كانت الأخبار متضاربة جدًا، من حيث أعداد الشهداء التي تختلف في كل مرة، حتى فقدنا الثقة بما نسمع. كما في قصة الراعي والذئب، فقد كنا نسمع خبرًا بعد آخر، فلا نعرف أيها نصدق.
• عقب تحريرك كيف كانت مشاعرك عندما شاهدت الواقع خارج السجن وأدركت ما حل على أبناء شعبك في قطاع غزة؟
الحقيقة كانت الصدمة كبيرة. فكما ذكرت لم تكن الفرحة خالصة، فمنذ اللحظة الأولى امتزجت بالألم وخصوصا حين علمت بحجم الدمار في غزة.
• ماذا عن أفراد عائلتك؟
هناك اثنين من إخوتي استُشهدا، واثنين آخرين ما زالا في الأسر. تركتهم خلفي، لذلك كانت حريتي حرية ممزوجة بالفقد، وفرحة مبتورة بطعم الحزن.
• زملائك تحدثوا عن خليط من المشاعر راودتهم جميعا لحظة عبور معبر رفح إلى مصر.. فماذا عنك؟
في الحقيقة عند عبورنا معبر رفح، كانت تلك اللحظة نقطة تحول في مشاعري، وخصوصا حين رأيت الجندي المصري، شعرت أنني أمام لحظة وطنية عظيمة، فما أعظم أن ترى الفرح في عيون المصريين، في عيون الجنود، والشرطة، والطواقم الطبية. فمنذ اللحظة الأولى لي على أرض مصر وقد شعرت أن مصر كلها تحتضنني.
حتى العاملون في الفندق كانوا يحتضنوننا بعفوية، يقدمون لنا الطعام بابتسامة.
والآن أتذكر تلك السيدة المصرية، التي لم تجد معها سوى قلم لتهديني إياه تذكارًا صغيرًا، وقالت لي: "ده من القلب". وبالفعل احتفظت به وسأبقيه معي ما حييت، لأنه يرمز للحب الإنساني الخالص من قبل شعب مصر.
• ما رسالتك لمصر التي استقبلتكم بعد إطلاق سراحكم من الأسر؟
كل الاحترام والتقدير لأم الدنيا، قيادة وشعبا. فاحتضان مصر لنا يؤكد أنها دائما الحضن العربي الدافئ والداعم لقضيتنا، وستبقى بوصلتنا نحو الحرية والوحدة.
• عقب كل هذه السنوات في الأسر، كيف يرى أيهم كممجي معنى الحياة والموت؟
أنا أؤمن أن الموت لا يهزم الأجل، وأن الإنسان يعيش ما كتب الله له. فإن جاء أجلي فليكن في سبيل الله والوطن. وأرى أنه ربما أخرني الله لحكمة، لأشهد هذا اليوم.
• الآن حدثنا عن تجربة نفق الحرية التي دوّت في العالم كله؟
تجربة نفق الحرية كانت ثمرة جهد وطني فلسطيني خالص، شارك فيه رجال نذروا أرواحهم للحرية. هم أبطال مجهولون، من لجنة الظل، جنود لا يُعرفون بالأسماء لكنهم يستحقون كل التحية.
فقد حفروا معا طريق النور بأيديهم، وعلّمونا أن لا مستحيل أمام الإرادة، بالضبط كما علمونا أن كل فلسطيني مخلوق من طينة التضحية نفسها، لا يفكر مرتين عندما يتعلق الأمر بالعطاء.
• كيف ترى ما حدث في "طوفان الأقصى" وتأثيره على مسار القضية الفلسطينية؟
في البداية أريد أن أؤكد أن قد تختلف الآراء حول "طوفان الأقصى"، لكن لا يمكن إنكار أنه "حدث مهم جدا" أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد أن حاول كثيرون طيّها تحت الطاولة.
ربما يراه البعض قرارا صعبا، وربما يختلف آخرون في التقييم، لكن المهم أن نحترم الاختلاف. كل يرى الحقيقة من زاويته، وما يجمعنا هو الهدف الأسمى" الحرية والكرامة".
• ذكرت خلال حديثك أنكم كنتم تتعلمون داخل السجن.. كيف كانت طبيعة هذا التعليم؟
التعليم داخل السجن كان سلاحنا في مواجهة العزلة. فقد كان لدينا نوعان من التعلم: الأول هو التعلّم الذاتي الديني، الذي يقوّي الروح والإيمان، والثاني هو التعلّم لخدمة الأمة والشعب، وهو واجب على كل إنسان.
• في ختام حديثك، ما الرسالة التي تود توجيهها للأسرى الذين لم ينالوا حريتهم بعد؟
بصدق، أشعر بالعجز والخجل أمام معاناة جميع الأسرى في سجون الاحتلال، ولكن يستحضرني الآن معاناة الأسير يعقوب قادري، الذي جمع بين العلم والإيمان، ودرس التاريخ والاجتماع، وحفظ كتاب الله، ومع ذلك يواجه من الألم ما يفوق الوصف.
فخلال حديثي منذ قليل مع صديقي محمود العارضة، قلت له: لقد درست كثيرًا، وحصلت على شهادات كثيرة، لكني مع الأسف لم أجد جملة واحدة تستطيع أن تغطي عورة خجلي أمام يعقوب.
وهنا أقول لكم: "ماذا يمكن أن تقول لإنسان يعيش الألم بصبر المؤمن وهدوء العالم؟!.. فالكلمات تضيق، واللغة تخذلنا أمام عظمة الصبر الإنساني"