ماكرون ونتنياهو.. مواجهة دبلوماسية على وقع حرب غزة: أزمة صامتة تتحول إلى صدام مفتوح
آخر تحديث: الخميس 21 أغسطس 2025 - 1:15 م بتوقيت القاهرة
هايدي صبري
لم تعد الأزمة بين باريس وتل أبيب مجرد خلاف دبلوماسي عابر، بل تحولت إلى صدام علني بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مشهد يعكس توتراً متصاعداً على خلفية الحرب الدامية في غزة.
وسلطت وسائل الإعلام الفرنسية الضوء على هذه المواجهة غير المسبوقة، ووصفتها بأنها "انكسار في علاقة طالما جمعتها المصالح الإستراتيجية، وإن شابتها التوترات"، حيث يرى مراقبون أن ما يجري هو مواجهة بين رؤيتين متعارضتين:فرنسا التي تحاول لعب دور قوة أوروبية مستقلة تطرح مبادرات للسلام وتلوح بالاعتراف بدولة فلسطين، مقابل إسرائيل التي تعتبر أي انتقاد لعملياتها العسكرية تقويضاً لشرعيتها وتهديداً لأمنها القومي.
من جهتها، رأت صحيفة "ميدي ليبر" الفرنسية أن الخلاف يعكس تصادماً بين رؤيتين استراتيجيتين، وهما أن فرنسا تسعى لإبراز نفسها كقوة أوروبية مستقلة قادرة على طرح مبادرات للسلام، بل ولوحت بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة. في المقابل، ترى إسرائيل أن مثل هذه المواقف تهدد شرعيتها الدولية وتعتبر أي نقد لعملياتها العسكرية تقويضاً لأمنها القومي.
وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى انه بين التهدئة والتصعيد يبقى المشهد معلقاً، موضحة أن المصالح العميقة التي تجمع فرنسا وإسرائيل، سواء في ملفات التعاون العسكري أو في دوائر الاتحاد الأوروبي، قد تدفع الطرفين عاجلاً أو آجلاً إلى تخفيف حدة الأزمة. لكن استمرار الحرب في غزة وارتفاع الكلفة الإنسانية والسياسية يجعل خطر الانزلاق نحو قطيعة دبلوماسية أكبر من أي وقت مضى.
ووفقاً للصحيفة الفرنسية فإن تصريحات ماكرون الأخيرة حول الهجوم الإسرائيلي المرتقب على مدينة غزة أشعلت الأزمة، إذ اعتبر الرئيس الفرنسي أن "العملية العسكرية لن تؤدي إلا إلى كارثة حقيقية للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وتهدد بدفع المنطقة نحو حرب دائمة"، وذلك قبل عشرة أيام فقط، كان قد دعا إلى إنشاء بعثة دولية لـ"استقرار الوضع" في القطاع بمشاركة مصر والأردن.
وأشارت "ميدي ليبر إلى أن "رد نتنياهو لم يتأخر، فبعد رسائل تحذيرية من باريس، لوح الجانب الإسرائيلي بإجراءات دبلوماسية غير مسبوقة، منها إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس، بل وترددت أنباء عن نية مصادرة بعض الممتلكات الفرنسية في المدينة كخطوة مضادة.
**اتهامات متبادلة ومعركة روايات
أما نتنياهو فقد صعد لهجته متهماً ماكرون بـ"تغذية نار معاداة السامية في فرنسا"، مشيراً في رسالة رسمية إلى "تصاعد مقلق لموجات العداء لليهود في المدن الفرنسية". لكن ماكرون رد بقوة، واصفاً هذه الاتهامات بأنها "خاطئة ومشينة"، مؤكداً أن معاداة السامية قضية تحاربها فرنسا بجميع مؤسساتها، ولا يمكن أن تُستخدم كذريعة سياسية لتبرير الحرب في غزة.
حتى المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) تدخل محاولاً التهدئة، حيث صرح رئيسه جوناثان آرفي بأن "العلاقات بين فرنسا وإسرائيل تستحق أكثر من جدل عقيم وتصريحات حادة".
**تعبئة عسكرية إسرائيلية… ونافذة للوساطة
في خضم هذا التوتر الدبلوماسي، أعلنت إسرائيل استدعاء 60 ألف جندي احتياط استعداداً لعملية برية واسعة في غزة. ورغم أن هذه التعبئة تكشف عن تصميم حكومة نتنياهو على المضي قدماً، إلا أن مراقبين أشاروا إلى أن الفترة اللازمة لتجهيز هذه القوات قد تتيح فرصة للوسطاء المصريين والقطريين لتفعيل جهود وقف إطلاق النار، خصوصاً مع قبول حركة حماس بالمقترح الأخير للهدنة، وفقاً للصحيفة الفرنسية
**أبعاد الأزمة بين باريس وتل أبيب
من جانبها، قالت صحيفة"ليزيكو" الفرنسية إن التوتر يتصاعد بين ماكرون ونتنياهو، محذرة من أن التصعيد قد يترك بصماته على ملفات أخرى، أبرزها التعاون العسكري والأمني بين البلدين، وكذلك مواقف الاتحاد الأوروبي الذي يوازن بين ضغوط داخلية متزايدة للتضامن مع الفلسطينيين، وضغوط أمريكية للحفاظ على التحالف مع إسرائيل.
بدورها، ذكرت محطة "بي إف إم" التلفزيونية الفرنسية أن العلاقة بين ماكرون ونتنياهو شهدت تحولاً من الدعم إلى التوتر المتزايد. فبعد أن قدم ماكرون دعماً كاملاً لإسرائيل في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، أخذ تدريجياً يبتعد عن حكومة نتنياهو على خلفية المأساة الإنسانية في غزة، ومنذ عام تقريباً، أخذت حدة التوتر بين الزعيمين في التصاعد، لتبلغ ذروتها مع إعلان فرنسا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين.
وأشارت المحطة الفرنسية إلى جانب الوضع في غزة، كانت المواجهة العسكرية الإسرائيلية في لبنان ضد حزب الله، الحليف الوثيق لحركة حماس والتابع لإيران التي تُعتبر "العدو اللدود" لإسرائيل – عاملاً إضافياً في تعميق الخلاف. فقد رأت باريس في العملية البرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني إهانة دبلوماسية، إذ تجاهلت تل أبيب مبادرة وقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً التي صاغتها فرنسا بالتنسيق مع الولايات المتحدة. كما أدانت باريس في حينه ما وصفته بـ"القصف الإسرائيلي المتعمد" لمواقع قوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) جنوب لبنان.
ونقلت المحطة الفرنسية عن الباحث في المعهد الفرنسي للتحليل الإستراتيجي والمتخصص في شؤون الشرق دافيد ريجولي-روز،قوله إن "العلاقات الشخصية بين الرجلين باتت في غاية السوء"، وهو ما يعكس عمق الشرخ القائم حالياً بين باريس وتل أبيب.
وأوضح ريجولي-روزانه "بعد السابع من أكتوبر، كانت بعض تصريحات الرئيس ماكرون تُعتبر مفرطة في الانحياز لإسرائيل، فيما اعتبرت أخرى على العكس مفرطة في انتقادها لها"، مضيفا لقد كان ماكرون يحاول الحفاظ على موقف متوازن، وهو النهج الذي ميّز الدبلوماسية الفرنسية دائماً، رغم تقلب الأحداث"، على حد تعبيره.
وأضاف الباحث الفرنسي: "مع مرور الأشهر، وبفعل تدهور الوضع الإنساني في غزة، تولد لدى الإسرائيليين انطباع متزايد بأن فرنسا بدأت تنأى بنفسها تدريجياً عن مواقفهم".
الاعتراف بدولة فلسطين.. "منعطف حاسم"
ولفت ريجولي –روز إلى أنه إذا كانت العلاقة بين الرجلين قد تدهورت تدريجياً، فإن المنعطف الحاسم تمثل في إعلان فرنسا، أواخر يوليو/تموز، عزمها الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، معتبرا أن هذا الإعلان جر على ماكرون سيلاً من الانتقادات من جانب بنيامين نتنياهو ووزرائه.
وتابع الباحث ريغولي-روز قائلاً: "من دون شك، مثّل هذا الإعلان نقطة تحول في العلاقات بين الزعيمين، تتجاوز مجرد تقلبات الخطاب السياسي خلال الأشهر الأخيرة. بل يمكن اعتباره لحظة فاصلة وسط ما يشبه مساراً من التقلبات الحادة".
وعقب ذلك الإعلان، سارعت أكثر من عشرة بلدان غربية – من بينها كندا وأستراليا وبريطانيا (مع بعض التحفظات) إلى إعلان نيتها اتباع خطى فرنسا. وهو ما علق عليه الباحث قائلاً: "نتنياهو يكن لماكرون استياءً أكبر كونه كان المبادر إلى إطلاق ديناميكية دولية لم يكن يتوقع أحد أن تتسع بهذا الشكل"، في إشارة إلى أن وقع القرار الفرنسي ربما كان أقل تقديراً من طرف إسرائيل.