في ذكرى رحيله.. شوبنهاور الفيلسوف المنعزل الذي ألهم نيتشه وفرويد والفنون الحديثة
آخر تحديث: الأحد 21 سبتمبر 2025 - 2:44 م بتوقيت القاهرة
منى غنيم
رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم من العام 1860 الفيلسوف الألماني، آرثر شوبنهاور، أحد أبرز الأسماء في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، والذي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الفلسفة والأدب والفنون، والذي لم تكن حياته سهلة بالمرة، إذ عانى منذ شبابه من صدمات شخصية وعاطفية، إضافة إلى شعور متواصل بالاغتراب عن عصره، حيث إنه نشأ في أوروبا المتقلبة التي شهدت الحروب النابليونية والتحولات السياسية الكبرى، وهو ما ترك أثرًا عميقًا في رؤيته للحياة.
وُلد شوبنهاور في 22 فبراير 1788 بمدينة دانتسيج في بولندا، وكان أباه واحدًا من كبار التجار، ووالدته كانت ذات ميول أدبية وثقافية، الأمر الذي وفّر له منذ طفولته بيئة مميزة تجمع بين الثقافة الرفيعة والمعرفة الاقتصادية.
وانجذب شوبنهاور إلى الفلسفة الكلاسيكية الألمانية وذلك منذ سنوات دراسته في جامعة "جوتنجن" بألمانيا، ولكنه سرعان ما وجد نفسه على خلاف مع تيارها المهيمن ممثلًا في فكر الفيلسوف الألماني، فريدريك هيجل، الذي كان يراه أقرب إلى لغة غامضة تسعى لإرضاء الدولة أكثر مما تبحث عن الحقيقة، ووّلد رفضه لهذا الفكر الرسمي لديه عزلة فكرية، لكنها منحته في الوقت نفسه قدرة على صياغة فلسفة مختلفة، قائمة على النقد الجذري للحياة الإنسانية.
ويعد كتاب "العالم إرادة وتمثّلًا" الذي نشره عام 1818 من بين أبرز أعمال الفيلسوف الألماني الشهير، والذي لم يلق في البداية إلا تجاهلًا واسعًا من الوسط الأكاديمي، وقدم في هذا العمل الضخم رؤيته للحياة باعتبارها تجسيدًا لإرادة عمياء، لا عقلانية، تدفع الكائنات جميعًا إلى الصراع والمعاناة.
وكشف لنا شوبنهاور عبر كتاباته عن فلسفته في رؤية الإنسان، فهو في نظره لا يعيش وفق خطط واعية أو غايات كبرى، بل هو أسير نزوات ورغبات تتجدد باستمرار ولا تنطفئ، مما يجعل الشقاء قدرًا محتومًا، وهذا التصور التشاؤمي للحياة لم يكن عنده دعوة لليأس بقدر ما كان بحثًا عن طرق للنجاة، من بينها الفنون والموسيقى والتأمل، التي اعتبرها قادرة على تحرير الإنسان ولو مؤقتًا من سطوة الإرادة.
ومن بين مؤلفاته الأخرى التي أثرت في الفكر الغربي، نجد "فن أن تكون دائمًا على صواب" و"حكمة الحياة"، حيث عبّر عن مزيج فريد بين الفلسفة الأخلاقية والحكمة العملية، ولعل الأبعاد الإنسانية في أعماله تظهر بجلاء في اهتمامه بمعاناة الإنسان، بعيدًا عن الطروحات المجردة أو الأنظمة الفلسفية الشمولية، حيث جعل من الألم والتجربة الشخصية محورًا للتفلسف، وهو ما يفسر انجذاب كتّاب كبار مثل: الكاتب الروسي، ليو تولستوي، والروائي الروسي، فيودور دوستويفسكي، والفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، لاحقًا إلى أفكاره.
لم يكن شوبنهاور مجرد عقل فلسفي، بل كان إنسانًا شديد الحساسية والصراع الداخلي، فكاتت علاقته بوالدته متوترة، وابتعد عنها منذ شبابه بسبب اختلاف طباعهما، حيث كانت اجتماعية محبة للحفلات، بينما هو كان منطويًا متأملًا.
كما عاش شوبنهاور حياة شخصية مليئة بالعزلة، ولم يقم بتأسيس أسرة، بل قضى معظم سنواته بصحبة كلاب البودل التي كان يعشقها ويعتبرها أوفى من البشر. وإلى جانب عزلته، واجه انتقادات لاذعة من زملائه في الوسط الجامعي، ولم يعرف النجاح والشهرة إلا في سنواته الأخيرة، حين بدأت أعماله تنتشر على نطاق أوسع في أوروبا وخارجها.
على الرغم من عزلته، فإن حضور شوبنهاور في النقاش العام والسياسي لم يكن غائبًا، فقد كان ناقدًا شديدًا للتقاليد الاجتماعية الصارمة، وساخرًا من السلطة العليا، بل وصل به الأمر إلى اتهام الفلاسفة الرسميين بالخضوع لمصالح الدولة. كما أن فكره حول الحرية الفردية والرفض القاطع لأي تسويغ للشر الاجتماعي جعله أقرب إلى الأصوات المعارضة للسلطة القائمة، وإن ظل خطابه في معظم الأحيان أقرب إلى الفلسفة التأملية منه إلى العمل السياسي المباشر.
أما عن تأثيره على الثقافة الشعبية العالمية، فهو واسع ومتنوع إلى حد كبير، فلقد كان شوبنهاور من أوائل المفكرين الغربيين الذين تأثروا بالديانات والفلسفات الشرقية، خصوصًا البوذية والهندوسية، حيث وجد فيها صدى لفكرته عن الإرادة والمعاناة.
وساهم هذا الانفتاح على الفكر الشرقي لاحقًا في تقارب الثقافات وتوسيع آفاق الفلسفة الأوروبية، كما ألهمت أفكاره العديد من الأدباء والفنانين، فالموسيقي الألماني، ريتشارد فاجنر، على سبيل المثال وجد في فلسفة الإرادة أساسًا لرؤيته الفنية، بينما استلهم "نيتشه" في بداياته فكرة التشاؤم قبل أن يقلبها إلى فلسفة إرادة القوة.
وفي القرن العشرين، تسربت رؤياه إلى أعمال أدبية كبرى وإلى النقد الفني وعلم النفس، حتى أن الطبيب النفسي النمساوي الأشهر، سيجموند فرويد، اعترف بتأثره بطرحه لفكرة اللاوعي والرغبات المكبوتة.
ولم تخل حياة شوبنهاور من أحداث بارزة، فقد شهد انتحار والده في حادث غامض عام 1805، وهو حدث ترك أثرًا عميقًا على نفسيته، كما عاش مرحلة من الفقر بعد أن خسر جزءًا من ميراثه، واضطر للانتقال بين مدن ألمانية مختلفة.
ووقعت إحدى الحوادث المثيرة للجدل في حياته حين دخل في نزاع قضائي مع جارته بعد أن دفعها أرضًا أثناء مشاجرة نشبت بينهما، وبقي يدفع تعويضًا لها حتى وفاتها، ومثل هذه المواقف الشخصية، على غرابتها، تكشف جانبًا آخر من شخصيته الحادة والمتقلبة.
ومع مرور الزمن، انتقل شوبنهاور من كونه فيلسوفًا منبوذًا في قاعات المحاضرات الجامعية إلى واحد من أكثر الأسماء تأثيرًا في الفكر العالمي. فاليوم، لا تكاد تخلو مكتبة فلسفية أو أدبية من أعماله، وتستمر مقولاته في التداول، سواء في الدراسات الأكاديمية أو في الثقافة الشعبية اليومية، حيث يُنظر إليه بوصفه الفيلسوف الذي كشف قسوة الحياة، لكنه في الوقت نفسه أهدى الإنسان أدوات للتأمل والصبر والجمال.
وفي الختام، فإن ذكرى رحيل آرثر شوبنهاور لا تُعد مناسبة لاستعادة أفكار فيلسوف تشاؤمي فحسب، بل هي أيضًا فرصة للتأمل في كيف يمكن للفلسفة أن تضيء الجوانب المظلمة من الوجود الإنساني.
لقد أثبت شوبنهاور، أن الاعتراف بالألم ليس استسلامًا، بل قد يكون بداية لفهم أعمق للحرية والجمال، وهو ما يجعل إرثه حاضرًا بقوة حتى بعد مرور أكثر من قرن ونصف على رحيله.