أسامة غريب يكتب: شاعران عظيمان ونهاية فاجعة
آخر تحديث: الجمعة 23 مايو 2025 - 6:29 م بتوقيت القاهرة
المتنبي هو شاعر العرب الأشهر وأسطورتهم الأدبية على مر العصور، وهو يساوي شكسبير عند الإنجليز، ودانتي عند الإيطاليين، وبوشكين لدى الروس. لكن لعل الشبه بين المتنبي وبوشكين هو أقرب من الشبه بين أحدهما وبين أي من الشعراء الآخرين الذين مثّلوا الآداب المختلفة للأمم العريقة.
مثّلت حياة المتنبي فترة صراع سياسي حملت إرهاصات نهاية الدولة العباسية وتناثر الدويلات التي قامت على أنقاضها، وقد كان لكل دويلة أمراؤها ووزراؤها، وكان من المألوف أن يحشد كل واحد من هؤلاء ما يستطيع من المداحين والشعراء الذين عملوا على رفع اسمه وسيرته، وكان كل منهم يتيه على الآخرين بالشعراء الذين يحوزهم وبالمدائح التي يحظى بها.
نشأ أبو الطيب في هذه الأجواء وامتدح الحكام، لكنه كان يختلف عن غيره في أنه كان صاحب كبرياء يصل إلى الزهو بالنفس، وكان شجاعًا طموحًا محبًا للمغامرات، وقد ترك تراثًا شعريًا صوّر فيه الحياة في القرن الرابع الهجري أحسن تصوير.
امتلأت قصائد المتنبي بالحكمة التي ما زالت تدهش قرّاء العربية من هذا الرجل الذي هضم الحياة واستوعبها وعبّر عنها بأشعار عميقة بأبسط العبارات وأكثرها تأثيرًا. ويكفي أنه القائل:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا
ومن أشعاره في مدح سيف الدولة قوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
وحين ارتحل إلى مصر بعد أن نالت الوشايات من علاقته بسيف الدولة، أقام بها منتظرًا أن يهتم به واليها كافور الإخشيد، فلما تأخر هذا كتب له:
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجابُ
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيانٌ عندها وجوابُ
وعندما لم يجد من كافور فائدة خرج من مصر قاصدًا بغداد، وكان يوم عيد فهجا كافور وكتب قائلاً:
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ ... بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيدٌ دونها بيدُ!
ومن جميل شعره ما كتبه في الفخر بنفسه:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
كما يحفظ التاريخ للمتنبي قوله عن بعض مدّعي الشعر الذين نفَسوه على موهبته ومحبة الكبراء له:
أفي كل يوم تحت ضِبني شويعرٌ ... ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟
لساني بنطقي صامتٌ عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
وأتعبُ من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظُ من عاداك من لا تشاكل
هذا عن المتنبي.. أما عن أمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين، فهو يكاد يكون المتنبي الروسي الذي حملت أشعاره نفسًا شرقيًا متأملاً، شجيًا، مليئًا بالحكمة. ولد في بداية القرن التاسع عشر، وكان ضابطًا في بلاط بطرس الأول، ويمكن أن تؤرخ أشعاره للأحداث التي وقعت بروسيا في النصف الأول من ذاك القرن.
كانت أشعار بوشكين تطالب بالحد من سيادة النبلاء، وهو الأمر الذي كلفه أن نفوه إلى القوقاز، وهناك التقى بالمسلمين وتعرّف على حضارتهم وتأثر بها بعد أن جالسهم، ورأى كيف يعيشون وكيف يؤدون صلواتهم وماذا يقرأون فيها.
قرأ بوشكين معهم القرآن الكريم، واستمع إلى تلاوته، وتعرّف على سيرة الرسول محمد، وقد أثر فيه كل ذلك، فكتب قصائد "أسير القوقاز"، و"رسلان ولودميلا"، و"قبسات من القرآن"، و"الرسول"، و"ليلى العربية"، و"محاكاة العربي".
في قصيدته "الرسول"، كتب قصة نزول الوحي على محمد، ومثّلت قصيدته هذه تحديًا للكنيسة الأرثوذكسية المتشددة. يقول في القصيدة:
"مهمومًا بالظمأ الروحي كنت أجر خطاي في برية غير ذات زرع، عندما ظهر لي في مفترق الطريق ملاك ذو أجنحة ستة، وبأصابع من نور في مثل الحلم، لمس حدقتي عيني، فاتسعت الحدقتان النبويتان كما لو كانتا لنسر مذعور."
وفي قصيدة "ليلى العربية" يقول:
"تركتني ليلى مساء أمس دون اكتراث. قلت: توقفي، إلى أين؟ فعارضتني: لقد شاب شعر رأسك!
قلت للمتهكمة المتعالية: لكل أوانه!
فالذي كان مسكًا حالكًا، صار الآن كافورا،
لكن ليلى سخرت من الحديث الفاشل وقالت: أنت تعلم أن المسك حلو لحديثي الزواج،
أما الكافور فيلزم النعوش."
أما القصائد التي يجمعها عنوان "قبسات من القرآن"، فتدل على تأثر بوشكين الكبير بالقرآن وبالتراث الروحي للمسلمين، إلا أن خوفه من القيصر جعله يخفي عن أصدقائه هذا التأثر. يقول في واحدة من القبسات:
"يا من في ظل السكينة دسست رأسه حبًا وأخفيته من المطاردة الحادة،
ألست أنا الذي رويتك في يوم قيظ بحياة الصحارى؟
ألم أهب لسانك سلطة جبارة على العقول؟"
ليست فقط المنابع الفكرية والتقارب النفسي بين بوشكين والمتنبي هو ما يجمعهما، بل جمعتهما أيضًا النهاية الفاجعة؛ إذ مات كل منهما مقتولًا في نزال كان يمكن مفاداته لولا الشجاعة وإيثارهما الشرف على النكوص.
فقد قبل الشاعر الروسي منازلة نبيل فرنسي كان يطمع في زوجة بوشكين، وتلقى في المنازلة رصاصتين أدّتا إلى وفاته، وهو بعد في الثامنة والثلاثين. أما المتنبي، فقد صادف في ترحاله مجموعة من الفرسان ينتمون لقبيلة هجاها في السابق، فلما أحاطوا به همّ بالفرار، غير أن غلامه عاجله: أولستَ أنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟
فرد عليه بقوله: "قتلتني قتلك الله!"