زياد الرحباني وفيروز.. قصة فنية وإنسانية بصوت وطن

آخر تحديث: السبت 26 يوليه 2025 - 6:05 م بتوقيت القاهرة

خالد محمود

تبقى العلاقة بين زياد الرحباني (الذي رحل عن عالمنا صباح اليوم) ووالدته السيدة فيروز، علاقة فنية وإنسانية عميقة وثرية أثمرت عن أعمال ذات قيمة عالية في تاريخ الموسيقى العربية.

في بيت الموسيقى وُلد الحلم.. كان أحد بيوت أنطلياس القديمة، حيث كان البيانو قطعة أثاث ضرورية مثل الطاولة، نشأ زياد الرحباني بين النوتات والصوت الساحر لوالدته، السيدة فيروز. والمسرحيات والحكايات المغنّاة.

كان الطفل زياد الرحباني يجلس تحت البيانو، يسترق السمع لصوت أمه وهي تتمرّن على أغنية جديدة كتبها عاصي ولحّنها منصور. لم يكن يدري أن هذا الصوت، الذي كان يملأ البيت دفئًا وهيبة، سيكون يومًا هو نفسه مادته الأولى، ومسرحه الأوسع، وربما تحدّيه الأكبر.

لم يكن بيتًا عاديًا، بل مصنعًا للأحلام، حيث كان الأخوان رحباني يكتبون القصائد المغنّاة، وكانت فيروز تحوّلها إلى خلود.

قلبه الصغير كان يسأل أسئلة أكبر من عمره: لماذا يُغنّى الوطن بهذه البساطة؟ لماذا لا نسمع عن التعب، عن القلق، عن الشوارع المكسورة؟ كان يشعر أن الأغنية الرحبانية – رغم جمالها – تهرب أحيانًا من الواقع.

حين كبر، لم يكن زياد مجرد نجل فيروز، بل صار صوتًا مختلفًا في قلب الضجيج. موسيقيٌّ متمرّد، يكتب عن الخيبات، عن السياسة، عن الحصار، عن الفقر، وعن الحب بكل تعقيداته. لكن المفارقة الأجمل كانت أن فيروز، بصوتها النقيّ السماوي، قرّرت أن تغنّي هذا الوجع الذي كتبه ابنها.

بدأ التعاون الفني بين فيروز وإبنها زياد في ألبوم "وحدن" عام 1979، يومها كانت الحرب الأهلية تمزّق بيروت، وزياد كان يكتب موسيقاه من قلب المعاناة، لا من الشرفة الرحبانية.

كانت الأغاني تُشبه المكان والزمان: حزينة، صادقة، وموجعة. غنّت فيروز كلمات وألحان ابنها، وكأنها تمنحه صوتها ليقول ما يريد، بلغتها هي.

غنّت فيروز "عودك رنان" و"وحدن"، وغنّت بصوتها الحنون صرخته الصامتة.

توالت الأعمال، وكان أبرزها ألبوم "كيفك إنت؟" في التسعينات، حيث قدّم زياد لفيروز ألحانًا مفعمة بالصدق والواقعية. أغنيات مثل "كيفك إنت"، و"أنا عندي حنين"، و"بكتب اسمك يا حبيبي"، مزجت بين البساطة والعمق، وبين الحنين والأسى.

في العلاقة بينهما، لم تكن فيروز فقط "الأم"، بل كانت أيضًا "الصوت"، بينما كان زياد ليس فقط "الابن"، بل "الكاتب والموسيقي والمخرج"، الذي يُعيد تشكيل صورة فيروز لجيل جديد، دون أن يُفقدها وقارها أو سحرها. كان يُجرّب، يُغامر، أحيانًا يُبالغ، لكنها كانت تثق به. كانت تؤمن أن في صوته غضبًا نقيًّا، يشبه غضبها الداخلي الذي لم تعبّر عنه علنًا يومًا.

لكن هذه القصة لم تكن دومًا ناعمة. مرّت بتوترات، بخلافات عائلية وفنية. الصحف كتبت عن قطيعة، عن ابتعاد، عن جفاء، لكنه، في كل مقابلة، لم ينكر فضلها، ولم يتوقف عن احترام مكانتها، حتى وإن اختلف معها.

ومع ذلك، يبقى صوت فيروز في أعمال زياد بمثابة الذاكرة المقدّسة. ويمثّل زياد في حياة فيروز الابن الذي اختار دربًا مختلفًا، لكنه ظل ابن البيت، ابن القلب، وابن الصوت الذي حمله في قلبه طوال حياته.

إنها قصة أم وابن، لكن أيضًا قصة وطن وصوت، موسيقى وسؤال، تقليد وتمرد. قصة بدأت في بيت موسيقي صغير، وامتدت إلى مسارح العالم، وتركت خلفها أعمالًا لا تنسى، تنبض بالحقيقة، وتُثبت أن الفن حين يكون عائليًا، يكون أكثر صدقًا، وأكثر وجعًا

• "عودك رنان"، " وحدن" ، " كيفك إنت؟"، " أنا عندي حنين"، " ولا كيف"

كلها كانت ثمار هذا التحالف العائلي الفني، حيث الأم كانت الأيقونة، والابن هو المخرج الموسيقي لهذا الصوت الخالد.

"الاحتكاك بين الحنان والاحتجاج"

لم تكن العلاقة بينهما دومًا سهلة. فنية كانت أم عائلية، العلاقة بين فيروز وزياد مرّت بمراحل شد وجذب. الخلافات لم تكن فقط حول الألحان أو الأسلوب، بل أحيانًا حول نظرة كلٍّ منهما للعالم. ورغم هذا، لم ينقطع خيط الاحترام بينهما.

زياد، رغم تمرّده، كان يضع صوت أمه فوق الجميع، بينما كانت فيروز تُقدّر صدقه الفني، حتى وإن بدا قاسيًا أو متطرفًا أحيانًا.

أمّ وابن.. أم وطن وصوت وموسيقى ورسالة ؟

العلاقة بين فيروز وزياد لم تكن فقط أمومة وقرابة، بل كانت قصة صوت وكتابة، موسيقى ورسالة. من خلالها عبّر زياد عن جيله، ومن خلالها تجددت فيروز في أعين الشباب، لا كأيقونة ماضية فقط، بل كصوت لا يزال حيًّا، ومتجددًا، ومتصلًا بالحاضر.

حين يصبح الفن حكاية بيت

قصة زياد وفيروز هي قصة نادرة في الفن العربي. جمعت بين الحنان والاحتجاج، وبين الخيال الرحباني والواقع العنيف. وما نتج عنها ليس مجرد أغانٍ، بل وثيقة عاطفية وزمنية تختصر حال لبنان، وتحكي حكاية الفن حين يكون من لحم ودم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved