حوار مع الكاتب العالمي هشام مطر وزوجته عن ترجمته كتاب الأحلام الأخيرة لنجيب محفوظ
آخر تحديث: الإثنين 28 يوليه 2025 - 7:40 ص بتوقيت القاهرة
منى غنيم
● أحلام محفوظ الأخيرة.. القاهرة كما رآها نجيب.. وتخيلها وترجمها هشام مطر.. وصوّرتها ديانا
- "شيكاجو ريفيو أوف بوكس": الكتاب الجديد تجربة إبداعية استثنائية مشتركة ما بين ترجمة "مطر" المتقنة التي نقلت روح "محفوظ" الخالدة في أعماله
- الصور الفوتوغرافية لديانا مطر الملحقة بالكتاب التي أضافت لمسة بصرية عميقة للترجمة تحاكي ذاكرة المدينة التي لطالما عشقها محفوظ وخلدها في أدبياته "القاهرة"
حين منحت الأكاديمية السويدية الأديب المصري العالمي، نجيب محفوظ - الذي رحل عن عالمنا عام 2006 - جائزة نوبل في الأدب عام 1988، أشادت بأعماله التي وصفتها بـ "الزاخرة بالتفاصيل الدقيقة التي تتأرجح بين الواقعية البينة والغموض الآسر، والتي تمكن من خلالها أن يصوغ فنًا سرديًا عربيًا يعبّر عن الإنسانية جمعاء".
وترجم الكاتب العالمي الحائز على جائزة "البوليتزر" إلى جانب عدة جوائز أخرى، هشام مطر، كتاب "محفوظ" الذي نشر كاملًا بعد وفاته، الذي يعرف بـ «أحلام فترة النقاهة»، وهي الأحلام التي كتبها بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال عام 1994 خلال فترة علاجه الطويلة؛ حيث قدم ترجمة لمختارات من الأحلام إلى اللغة الإنجليزية بعنوان «وجدتُ نفسي: الأحلام الأخيرة»، ورافقتها صور فوتوغرافية لزوجته الفنانة البصرية، ديانا مطر.
وقد جمعت الزوجين في الخامس والعشرين من شهر يوليو الجاري مقابلة صحفية أجرتها رئيسة تحرير مجلة "نوروز" للفنون والآداب الفارسية، والمحررة بموقع "شيكاجو ريفيو أوف بوكس" - وهو موقع أدبي يقدم مراجعات نقدية عالية الجودة بالإضافة إلى مقابلات مع كُتاب وتحليلات أدبية - ماندانا تشافا، تحدثت معهما عن تجربتهما الإبداعية المشتركة في كتاب الترجمة الجديد الصادر عن دار نشر "بنجوين"، والذي وصفته بـ "التجربة الآسرة بفضل الجو الحلمي اللاواقعي الذي تميزت به تلك الرؤى الخاصة بالأديب الراحل".
وجاءت ترجمة "مطر" رقيقة ومتقنة لتعكس قلم "محفوظ" الفريد وروحه الخالدة في أعماله، وأضافت صور زوجته، ديانا مطر، الملحقة بالكتاب لمسة بصرية عميقة للترجمة تحاكي ذاكرة المدينة التي لطالما عشقها محفوظ؛ القاهرة، في حضورها الواقعي والزمني السرمدي، وذكرياتها التي لا تغيب عن وجدان الكاتب.
وقالت "تشافا" إن تلك التجربة الإبداعية المتميزة للزوجين أثّرت فيها بشكل كبير؛ فهو عمل مشترك جاء على غير المتوقع مليئًا بالحنين، يقودنا إلى العوالم الخفية الخاصة بهذا الرمز الأدبي الراحل، بمرافقة مترجم ومصورة من طراز رفيع، ليصل إلينا نحن البشر في كل مكان، كما تأثرت أيضًا كثيرًا بالجملة المؤثرة في خاتمة الكتاب التي تقول: "وشعرت، بعد كل تشاؤمي هذا، أن الأمل لابد وأن يعود."
في البداية، ذكّرت المحاورة "مطر" بعبارة قد قالها له نجيب محفوظ ذات مرة؛ ألا وهي: "إن الإنسان ينتمي إلى اللغة التي يكتب بها"، ثم قالت إنها - مثل "مطر" - لديها مشاعر متناقضة تجاه هذه المقولة؛ فهي تكتب بالإنجليزية، لكنها ليست لغتها الأم، ومع تقدمها في العمر، تجد نفسها تعود أكثر فأكثر إلى اللغة التي نشأت عليها، لا التي تكتب بها.
وأضافت أن هذا الأمر يسلط الضوء على تعقيد العلاقة بين اللغة والهوية الوطنية؛ فقولنا إن عملاً ما كُتب باللغة العربية لا يعكس بالضرورة تنوّع مصادر هذه اللغة أو تأثرها بالعوامل الخارجية.
وبسؤال "مطر" عن علاقته باللغات التي يكتب ويتحدث بها بصفته كاتبًا ومترجمًا، أجاب أنها علاقة معقدة ولا شك، بيد أن اللغة الإنجليزية هي أداته الرئيسية للتعبير؛ فهو يتعامل معها على أنها ممارسة يومية لفهم خباياها وتاريخها، ويستخدمها لتحقيق أغراضه الأدبية.
وقال: "إن اللغة الإنجليزية ليست لغتي الأم، ومن ثمّ فإنني لا أتعامل معها بوصفها حقًا مكتسبًا، بل أُدرك دومًا أن كل اللغات في جوهرها محاولات تقريبية، ومهمة الروائي هي الإمساك بالكلمات ووضعها في موضعها الصحيح"، وأضاف: "هناك العديد من الكُتّاب العظام الوافدين - مثلي - على اللغة الإنجليزية ممن أجد في مسيرتهم ما يدهشني ويؤرقني في آن واحد"، وضرب مثالًا على ذلك بالأديب الإنجليزي بولندي الأصل، جوزيف كونراد، في كتاباته بالإنجليزية، فالقارئ يستطيع بسهولة أن يستشعر المسافة والبعد بينه وبين كاتب الكلمات، والتمزق في الروح الأصلية للنص، وفقدان المعنى الأولي الخام، وإن كان عمق وجهة النظر وآراؤه يعوضان عن ذلك الخلل بشكل ما.
وفي مقدمة كتابه الجديد، قال "مطر": "في ذلك الصيف الذي التقينا فيه نجيب محفوظ، حيث كان يعيش بعضًا من هذه الأحلام، أصبحت القاهرة مصدر إلهام لديانا"، ومن هذا المنطلق وجّهت "تشافا" سؤالًا لديانا عن أصل هذه الصور التي أوردتها عبر الكتاب، والتي تحمل إحساسًا حميميًا، ربما بفضل اللونين الأبيض والأسود، أو التباين الحاد مع شيء من الضبابية؛ فكثير منها يتجاوز الزمان والمكان، كأنها تحاكي الحلم حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال.
وأجابت ديانا مطر بأنها زارت القاهرة لأول مرة عام 1997، ومنذ زيارتها الأولى للمدينة العتيقة، شعرت برغبة ملحة أن تكون وسط الشوارع؛ فقالت: "لا يمكن الإفلات من ضوء النيل المنعكس على وجه المدينة، إنها مدينة يترك عليها الزمن بصماته، حتى وإن انهارت في بعض الأحيان أجزاء من ماضيها"، وأضافت: "إن جمال القاهرة يكمن في التقاء الحاضر والماضي الاستعماري والقديم، وتعاقب الزمن على المدينة الذي يترك أثره بقوة على الصور".
كما تحدثت ديانا مطر عن الأمان الذي شعرت به أثناء تواجدها بالقاهرة، وطيبة الناس، وقدرتها كامرأة على التجول بحرية ليلًا ونهارًا بلا خوف، وأوضحت أنها التقطت صورًا للقاهرة على مدار أكثر من 15 عامًا، بلا خطة مسبقة، فقط بدافع الشغف وحبها للمدينة.
ووجّهت المحاورة سؤالًا لديانا مطر عن أعمالها التي دائمًا ما تلامس الذاكرة، والشهادة الحية، والأحداث التاريخية والسياسات المعقدة، سواء الشخصية أو العامة، حيث تساءلت عن كنه الحكاية البصرية التي سعت لصياغتها عبر الصور، خاصة مع معرفتها الشخصية بنجيب محفوظ، وتطويعها لصور القاهرة في هذا المشروع، حتى بدا وكأنها تحمل زمنها الخاص، أو كأنها خارج الزمن.
وأجابت ديانا مطر بأنها عندما بدأت اختيار الصور للكتاب، وجدت نفسها تعيش لحظة سحرية من التفاعل مع ترجمات هشام زوجها لأحلام "محفوظ"، ثم بدأت الغوص في أرشيفها الخاص، بحثًا عن صور تعكس إحساسًا مشابهًا لما في تلك النصوص القصيرة المدهشة.
وأضافت أن بعض الصور كانت اختيارًا بديهيًا، وأخرى كانت مدروسة أكثر؛ فعلى سبيل المثال "محفوظ" كثيرًا ما كان يحلم بـ"ب" — التي تعبر عن الحب غير المتبادل — فاختارت صورًا لنساء لا يظهر وجههن، كرمز بصري لذلك الحب المستحيل، أما الرجال في صورها فقد تحلّوا بمظهر الجدية في تناغم مع نبرة الأحلام العامة للكتاب.
وتابعت: "ما يعجبني أن هذا الاختيار البصري تم بعد سنوات من التقاط الصور، وبمساهمة فنية من شخص آخر، له علاقة أعمق بالقاهرة، وهذا يؤكد أن الفن ليس فقط عملًا فرديًا، بل أيضًا تعاون روحي لا ينتهي بمجرد رحيل أحد المبدعين".
وعبر المقابلة، كشفت "تشافا" عن أن "مطر" بدأ ترجمة الكتاب في الأصل من أجل زوجته ديانا، وليس بهدف النشر العام، وهذا ما يجعل العمل يحمل حسًا خاصًا وحميمًا، ثم بسؤاله عن كيف تطور المشروع بينهما، وعن طبيعة حياتهما الإبداعية المشتركة، قال "مطر" إن الأمر بدأ ذات صباح خريفي في 2018، حين كان يقرأ أحلام محفوظ ويشعر برغبة عميقة في أن يشاركها مع زوجته ديانا، فقام بترجمة بعضها، ثم تتابع المشروع بشكل طبيعي.
وقال: "كنت أرى صور ديانا للقاهرة بجانب تلك الأحلام، وبدأنا ننسج هذا الكتاب معًا"، وأضاف: "إنني أراه عملًا مشتركًا بين نجيب محفوظ وديانا مطر؛ فهو مجموعة رؤى بالكلمات والصور لمدينة القاهرة وعالم الحلم".
وتابع: "أما عن حياتنا الإبداعية، فهي مترابطة تمامًا؛ فنحن زوجان، ونعمل جنبًا إلى جنب. نقرأ أعمال بعضنا أولًا، ونخوض حوارًا مستمرًا عن الفن منذ لقائنا قبل ثلاثين عامًا، وهذه العلاقة الإبداعية هي من أعز ما أملك".
وقالت ديانا مطر إن الحياة الفنية بالنسبة لها لا تنفصل عن الحياة اليومية؛ فهي شيء مقدس وخاص للغاية، وأوضحت أن زوجها هشام مطر كان يقرأ لها أحلام "محفوظ" كل صباح، كأنها هدايا صغيرة، ومصدر للدهشة، وبيّنت أنهما واصلا العمل على المشروع بشكل منفصل وعلى فترات طويلة بجانب أعمالهما الأخرى.
وقالت ديانا مطر إن القاهرة، بالنسبة لمن لهم عائلة فيها، مكان حميمي بامتياز، وبالنسبة لها، فالقاهرة تنبع من بيت والدة زوجها هشام؛ حيث تأسرها دائمًا التفاصيل الدقيقة: كرائحة الطعام، وصوت الضحكات، وزقزقة العصافير، والزحام، والأذان، وضوء الشمس المتغير، وأضافت أن أروع ما في أحلام "محفوظ" أنها تمزج الداخل والخارج وكأنهما واحد.
وكشف هشام مطر عن أنه انتقل إلى القاهرة عندما كان في التاسعة من عمره، وعاش بها حتى سن الخامسة عشرة، ثم انتقل لإنجلترا بعدها، لكنه لا ينفك يعود إليها كل عام، وعن المدينة الخالدة قال: "تأثرت بها كثيرًا، خاصة بجانبها الاجتماعي الحيّ، ومع ديانا، تعمقت علاقتي بها أكثر، ومع ترجمات كتبي للعربية، وجدت نفسي جزءًا من مجتمعها الأدبي، المتأثر دومًا بإرث محفوظ".
وبسؤال الزوجين عن أثر هذا المشروع في رؤيتهما للأحلام وتذكرها ومشاركتها، أشارت ديانا مطر إلى أن المشروع لم يؤثر على ذاكرتها الخاصة بالأحلام، ولكنه ألهمها طريقة "محفوظ" في إدخال الوعي الباطن إلى قلب الواقع الاجتماعي والسياسي، وقالت: "إن هذا بالضبط ما أبحث عنه كفنانة؛ فأنا دومًا ما أبحث عن طريقة تجعل الوعي الداخلي يلتقي مع اللحظة السياسية والاجتماعية في العمل الفني".
وقد وافقها في الشعور زوجها هشام مطر، وقال: "إن الترجمة جعلتني أكثر اهتمامًا بالأحلام، وأكثر وعيًا بصعوبة مشاركتها بسبب خصوصيتها الكبيرة"، وأضاف أنه يخطئ دائمًا عندما يتحدث عنها، فيقول "قصائد" بدلًا من "أحلام"، ربما لأنها تتعامل مع المعنى والذاكرة بنفس الطريقة التي تتعامل بها القصائد.
وقالت ديانا مطر إن الصور والأحلام بمثابة "ماندالا"؛ أي تأملات متشابكة تساعدنا في إدراك أشياء لا نعرفها، وأضافت: "أحيانًا أعود لمطالعة عبارات من كتّاب أحبهم، فتأتي الكلمات كأنها رد على سؤال لم أسأله بعد"، وتابعت: "ربما السر وراء ذلك هو تقاطع الحواس بين الكاتب والقارئ، أو شيء أعمق، كاستعدادنا لتلقّي الحكمة وقتما نكون جاهزين لها".
ووجّهت المحاورة سؤالًا لهشام مطر عن دلالة الأرقام في الكتاب الذي يبدأ من حلم رقم 200 إلى 299، فقال "مطر" إن الجزء الأول، بعنوان «أحلام فترة النقاهة»، ضم نحو 230 حلمًا، وصدر عام 2004 قبل وفاة محفوظ، أما الجزء الثاني، الذي نُشر بعد وفاته، فيبدأ من حلم 200 وحتى 497، والكتاب الجديد «وجدتُ نفسي» يحتوي على ترجمة أول 99 حلمًا من هذا الجزء الثاني.
وقالت "تشافا" إن رغم واقعية "محفوظ" المعروفة، فإن هذه الأحلام كانت أقرب إلى لوحات فنية شفافة، والكلمات والصور فيها تلامس مشاعر الحب والفقد والخوف والأمل، حتى إنها شعرت أنها ترى نفسها في هذه الأحلام التي تعبر عن صدى مشترك بيننا كبشر حين ننفصل عن الوعي، وعن ذلك الشعور، قال "مطر" إنه كان يأمل أن يشعر القارئ بذلك، فحين قامت زوجته بتصميم الكتاب، اتفقا منذ البداية ألا يقوما بشرح الصور أو النصوص أو العكس؛ لأنهما أرادا أن يكون هناك تفاعل يخلق شيئًا ثالثًا؛ ألا وهو حالة من التداخل بين الحلم والصورة.
وفي الختام، قالت ديانا مطر إن كلمة "ترجمة" نفسها لها أبعاد كثيرة؛ فعملية الترجمة قد تكون لمدينة ما، أو زمن ما، أو رغبة ما، أو ربما كلمة أو لمحة من ضوء أو فيلم أو ورق، ثم تحويل كل ذلك إلى شكل رقمي ومطبوع، وأضافت أن كل خطوة تُغيّر الأصل، لكنها تفتح بابًا لفهم مدينة "محفوظ" ووعيه، وتابعت: "إن الترجمة دعوة لأن يرى كل من القارئ والمترجم والمصور المكان بعين الآخر".