حكايتي مع الصحافة.. جميل مطر يوثق مسيرته المهنية بين الأهرام والشروق

آخر تحديث: الجمعة 31 يناير 2025 - 3:52 م بتوقيت القاهرة

محمد حسين

بعد مرور نحو 20 عامًا على كتابه "حكايتي مع الدبلوماسية"، الذي صدر عن دار الهلال عام 2002، يعود الدبلوماسي والكاتب الصحفي جميل مطر ليكشف جانبًا آخر من رحلته المهنية، تحت عنوان "حكايتي مع الصحافة". في هذا الكتاب، يوثق مطر تجربته في عالم الصحافة، مكملًا بها فصول سيرته الذاتية التي بدأها برصد سنوات عمله الدبلوماسي في ستينيات القرن الماضي، خلال حقبة الرئيس جمال عبد الناصر.

في "حكايتي مع الدبلوماسية"، قدم مطر شهادة حية عن بيئة العمل الدبلوماسي، مسلطًا الضوء على تفاصيل الحياة في السفارات المصرية التي عمل بها في الأرجنتين، وتشيلي، والصين، وإيطاليا، إلى جانب تجربته في وزارة الخارجية بالقاهرة، أما في كتابه الجديد، فينقل القارئ إلى كواليس الصحافة، حيث خاض تجربة مختلفة، لكنها لم تكن بعيدة عن مهاراته التحليلية وشغفه بفهم الأحداث وتفسيرها.

سلسلة الأحلام وأول دروس هيكل

يتحدث جميل مطر عن بداية رحلته المهنية، والتي استهلها بالتدرب في المكتبات العامة، حيث استفاد من هذه التجربة في صقل مهاراته الفكرية واكتساب القيم التي ساهمت لاحقًا في تشكيل مسيرته.

وينتقل مطر من تلك التجربة لى الدبلوماسية، والتي سعى من خلالها لتحقيق حلم رائع لم يلبث إلى أن تكسرت أضلاعه على صخرة واقع عنيد رفض أن يتشكل وفقًا لتصوراته المثالية.

ومع ذلك، لم يكن الحلم المنتهي إلا بداية لسلسلة أحلام، يتوالى كل واحد منها ليحمل معه درسًا جديدًا وتجربة تستحق التأمل. ويصف مطر الصحافة بأنها ليست فقط سلسلة من الأحلام، بل أيضًا سلسلة من الدروس التي صقلت مهاراته وشخصيته المهنية.

من بين هذه الدروس، يبرز درسًا محوريًا تلقاه من الأستاذ محمد حسنين هيكل، أول رئيس تحرير عمل معه، والذي أرشده بوضوح شديد: "أنت هنا كاتب صحفي، مهمتك الكتابة للقارئ العادي، بوعي سياسي معقول، وليس للعالم أو الناقد المتخصص"، وذلك بعدما كتب مقالا سيطر عليه حينها ضغوط التباهي بتخصصه في العلوم السياسية وتمكنه من اللغة والمصطلحات الأكاديمية.

كانت هذه النصيحة بمثابة نقطة تحول، دفعت مطر إلى تحرير أسلوبه من القيود الأكاديمية والتوجه نحو القارئ العام، وهو تحولّ لاحظه من خلال التفاعل الإيجابي مع مقالاته عندما تخلص من تلك الصرامة العلمية.

الأهرام: بطل الحكاية

وفي أول فصول كتابه الصادر حديثا عن الدار "المصرية اللبنانية"، يعود جميل مطر بذاكرته لسنوات الطفولة والصفا، والتي بدأ خلالها تعلقه وعلاقته طويلة بالصحافة من خلال تعلقه بجريدة الأهرام التي باتت بطل حكايته الثانية.

ويصف جميل مطر لقائه تلك العلاقة، بقوله: "لا جدال في أن جريدة الأهرام كانت ولا تزال، بشكل أو بآخر، بطل حكايتي الثانية، حكايتي مع الصحافة. تبدأ علاقتي بها منذ سنوات طفولتي، كنت دائما أول من يفتح باب الشقة ليسحب نسخة الأهرام الموضوعة برفق وعناية على (الدواسة). بكلمات أخرى كانت نسخة الأهرام الملقاة أمام باب شقتنا فاتحة علاقة طويلة الأجل مع الأهرام؛ جريدة ومؤسسة. كان بائع الصحف الأشهر في الحي، الذي عشت فيه سنوات دراستي الابتدائية والثانوية وأغلب سنوات الجامعة، أي كل سنوات طفولتي ومراهقتي، يفرش بضاعته في موقع يمكن وصفه بالاستراتيجي، اختار لفرش بضاعته مساحة واسعة، أو هكذا بدت لي في ذلك الوقت، على رصيف يكاد يطل على جميع منافذ الميدان، وفي الوقت نفسه يكاد يلتصق بمحطة الترام وهي المحطة التي ينزل فيها كل صباح العدد الأكبر من رجال الحكومة".

ويكمل مطر :" كانت نسخة الأهرام الملقاة بكل حرص أمام شقتنا أول شيء أصطبح به في معظم الأيام لا يفوتني في هذا المقام أن أذكر كيف أن نسخة أخرى من جريدة الأهرام احتلت ولا تزال تحتل مكانة فريدة في ذاكرتي . علمتني النسخة الأخرى نوع وقدر الاحترام الذي كان يجب أن نوليه ونحن صغار لهذه الجريدة، كبرت ونضجت وبقي الاحترام يلازم علاقتي بها. وبالفعل وحتى يومنا هذا، يعلم أهل بيتي أنني أحب أن أكون أول مَن يُمسك بالصحيفة".

وواصل مطر "تعودت أن أقضي ليلة بيوم أو يومين في الأسبوع تارة في "البيت الكبير"، شارع أمير الجيوش الجواني، المعروف اختصارًا بمرجوش؛ حيث كانت تقيم وتجتمع العائلة الممتدة في بيت جدتي لامي، وتارة فى بيت الخالة المتزوجة بعالم أزهري حاصل على العالمية ويدرس أصول الدين بالأزهر، خاصة في المناسبات الدينية. كان الشيخ بيومي يُحرم على بناته الخمس وولديه وأنا معهم وخالتي أيضا لمس نسخة الأهرام التي يأتي بها كل صباح موزع الصحف. حرم علينا قراءتها أو نقلها من مكانها إلى مكان آخر قبل أن تحملها له كل مساء وبعد العشاء كبرى بناته ليقرأها في وجودنا مجتمعين".

ويلفت مطر لشخصيات تركت أثرا مهما في حياته في تلك السنوات، وينسب فضلا لمعلم اللغة العربية والذي ساهم في تعويده على النطق السليم وإدراك أهمية القراءة، مشيرا إلى أنه ورغم قسوته في تعامله مع الأخطاء، كان لدروسه أثر عميق في نفسه، حيث يتذكر دخوله الفصل ومعه جريدة الأهرام، يقرأ منها بصوت واضح قبل أن يطلب من طلابه القراءة مثله، مشددًا على النطق الجيد والتوقف عند علامات الترقيم.

ويؤكد مطر أنه ورغم صرامته، تأثرت بعلاقته بالجريدة واحترامه لها، مما غرس في نفسي رهبة وإعجابًا بالأهرام في عقل طفل لم يسبق له أن قرأ أكثر من كلمات متفرقة الحروف، وربما كان اسمه أحد هذه الكلمات.

الصحافة والدبلوماسية: نقاط التقاء واختلاف

ويأخذنا جميل مطر في كتابه إلى تأملاته حول عالم الصحافة والدبلوماسية، وهما مهنتان تقاطع فيهما الكثير واختلف فيهما أكثر. يشير مطر إلى فضوله الدائم في فهم مهنة الصحافة التي طالما تخيلها كعالم مليء بالأسرار والألغاز، حيث نادرًا ما ينقص الصحفي الطموح أو الرغبة في تسلق سلم المجتمع. ومع ذلك، يرى أن الصحفيين يتمتعون بفرص واسعة للاختلاط وفنون التخاطب التي لا تتاح لمعظم الناس، مما يمنحهم قدرة استثنائية على التأقلم مع مختلف الظروف والشخصيات.

ويؤكد مطر أن الصحافة والدبلوماسية يعتمدان في جوهرهما على المعلومات، مشددًا على أن الفرق بينهما يكمن في كيفية توظيف هذه المعلومات وأماكن استخدامها، موضحا أن نجاح الصحفي أو الدبلوماسي يعتمد بشكل كبير على حصيلة ما يجمعونه من معلومات وقدرتهم على استثمارها بفعالية.


الطابق الرابع في الأهرام.. فضول المستجد وثبات الأقدام

يقول مطر إنه لا يعرف بالتحديد متى قرر الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام، أنه يصلح للعمل في الصحافة، لكنه يرجح أن قراره كان نتاج مراقبة دقيقة لتصرفاته؛ فقد وجد مطر نفسه ينجذب خفية إلى الطابق الرابع، حيث ينبض قلب المؤسسة الصحفية، بعيدًا عن الطابق السادس، مقر مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية الذي كان يعمل فيه. الانجذاب لعالم الصحافة لم يكن تسلله إلى عالم الصحفيين مجرد فضول عابر، بل كان تعبيرًا عن رغبته في الهروب من ثقل الانخراط في عملية صنع القرار السياسي، التي لم تتماشى مع طبيعته المتمردة وهواياته الفكرية.

ومع ذلك، كان للعمل الصحفي سحره الخاص، يجمع بين المتعة الدائمة والصعوبة أحيانًا، ما جعله يجد في هذا العالم متنفسًا وبيئة أكثر حيوية وتحررًا. تحول في أسلوب الكتابة ساهمت تجربة الصحافة في تحرير أسلوب مطر من قيود الكتابة البيروقراطية وطبيعة المذكرات الرسمية التي تعود عليها في عمله الدبلوماسي.

في بداية عمله بجريدة الأهرام، حرص جميل مطر على التعرف إلى مصادر الأخبار التي يعتمد عليها زملاؤه الصحفيون المقربون منه، فقد كان يؤمن أن المصداقية لا تقتصر على صحة الخبر فقط، بل تمتد إلى معرفة كيف وصل الصحفي إلى هذه المعلومات. ومن شدة اهتمامه بهذا الأمر، تمنى لو أن كل صحفي يكتب في مقدمة مقاله أو تقريره بضع سطور توضح للقارئ كيف توصل إلى هذا الإنجاز الصحفي.

كان يرى أن هذه الخطوة ستعزز ثقة القارئ بالمحتوى، كما ستساعد الصحفيين الشباب على اكتساب خبرات جديدة في طرق البحث والتحقيق الصحفي. لكن هذه الفكرة لم تلقَ ترحيبًا بين زملائه وأساتذته في ذلك الوقت، حيث اعتبروا أن كشف تفاصيل الحصول على المعلومات قد يُعرّض المصادر للخطر، ويتعارض مع أحد أهم المبادئ الأساسية في العمل الصحفي، وهو حماية سرية المصادر.

تجربة إصدار الشروق.. صحيفة بلون الشباب ووقار الكبّار

على مدار فصول الكتاب، يتتبع جميل مطر محطات مختلفة من مسيرته الصحفية، متوقفًا عند تجربة حديثة نسبيًا في مشواره، وهي إصدار صحيفة الشروق اليومية، التي لا يزال عضوًا في مجلس تحريرها وأحد أبرز كتّابها.

يروي مطر تفاصيل هذه التجربة، كاشفًا عن كواليس التأسيس والتحديات التي واجهتها الصحيفة عند انطلاقها. وكان من أبرز هذه التحديات وجود نسبة كبيرة من الصحفيين القادمين من مؤسسات إعلامية أخرى، يحملون ثقافات مهنية مختلفة. ورغم المخاوف من أن تؤثر هذه الخلفيات المتباينة على هوية الشروق الناشئة، إلا أن الفريق الصحفي أثبت ولاءه للمبادئ التحريرية للصحيفة، مما ساهم في ترسيخ نهجها المستقل وساعدها في تجاوز الأزمات المالية والإدارية التي واجهتها في بداياتها.

وصف مطر صحيفة الشروق بأنها ولدت "شابة بجاذبية غير مسبوقة"، مفعمة بالحيوية والجرأة في تناول القضايا الفكرية والسياسية. ولم تقتصر ميزاتها على الجرأة فقط، بل تميزت أيضًا بخفة الظل، وروح النقاش الواثق، والمغامرة المحسوبة، مما جعلها تجربة مختلفة في المشهد الصحفي المصري.

السؤال أهم من الإجابة.. خلاصة المشوار

في ختام حكايته مع الصحافة، يصل جميل مطر إلى خلاصات تأملاته، مسترجعًا نصيحة تلقاها من أحد كبار الناشرين الأمريكيين، الذي حذّره من مرضين خطيرين لطالما دمّرا الصحف والصحفيين: الغطرسة من جهة، والإغراق في التفاهة من جهة أخرى. يرى مطر أن المشهد الصحفي المصري في السنوات الأخيرة قد عانى من اجتماع هذين المرضين، حيث انشغل كثير من الصحفيين ببريق التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى تراجع الالتزام المهني وانحدار جودة المحتوى الصحفي.

يعزو مطر تفاقم هذه الظاهرة إلى الفراغ الذي خلّفه غياب الصحافة النموذجية، خصوصًا تلك التي جسّدتها مؤسسة الأهرام في أوج ازدهارها. يقول: "لا أتحدث هنا عن شخص محمد حسنين هيكل فقط، رغم إشادتي بدوره في محاولة وقف انهيار الصحافة الورقية في مصر، بل عن الجهد المتكامل الذي قدمته مؤسسة الأهرام في ظروف صعبة". ويشير مطر إلى أن الصحافة الورقية المصرية تعرّضت لضغوط سياسية مباشرة هدفت إلى إضعاف مؤسساتها الكبرى، حيث لم يُخفِ المسؤولون السياسيون في بعض الفترات رغبتهم في إقصاء الأهرام من حلبة المنافسة، ما أدى إلى تراجع ملحوظ في مستوى المهنة والصحفيين العاملين بها.

ومن الدروس التي استلهمها مطر خلال مسيرته الدبلوماسية والصحفية، يؤكد على أهمية السؤال كأداة جوهرية في التعامل مع القضايا الصحفية. يقول: "القضية الواحدة في القصة الواحدة تحتوي على عديد من الإجابات وليس إجابة واحدة. تعلمت أن أصعب القضايا تستسلم لسؤال معدّ بعناية وذكاء واطلاع كافٍ". يرى مطر أن السؤال الجيد، المصاغ بإتقان، هو أهم سلاح في ترسانة الصحفي المتميز، وهو درس اكتسبه من سنوات عمله في السلك الدبلوماسي وأعوامه الطويلة في الصحافة.

أما الإصغاء، فيراه مطر مهارة لا تقل أهمية عن فن السؤال. يشير إلى أنه تعلم الإصغاء الجيد منذ طفولته في بيت والديه، ثم وظّفه في مسيرته المهنية. يقول: "الإصغاء الجيد كان وما زال رصيدًا معتبرًا بالنسبة لي. كثير من مقالاتي في عمود "الانطباعات"، الذي تنشره الشروق كل أربعاء، اعتمدت على ساعات طويلة من الإصغاء".

ويضيف أن هذه المهارة مكّنته من بناء جسور الثقة مع الشباب، مما دفعهم للإفصاح عن أفكارهم وهمومهم، مؤكداً أن الإصغاء لا يقل أهمية عن السؤال في العمل الصحفي، بل هو مفتاح الوصول إلى أعمق القصص وأصدقها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved