يحتشد المصريون من شتى الأقاليم في أحد عصور المماليك، بينما تكتسي الشوارع القريبة من قلعة الجبل بأبهى زينتها، لتزداد البهجة مع اقتراب ذلك الموكب، يتقدمه الجمل، وعلى ظهره محمل الحج بقبّته الفضية المميزة، وحوله الخيالة بدروعهم اللامعة ورماحهم مشرعة في الهواء، يؤدون بها عروضًا جذبت أنظار الحاضرين، بينما يظهر المهرجون المقنّعون المعروفون بـ"عفاريت المحمل"، وهم يقومون بألعاب سحرية تزيد المشهد سرورًا، في يوم يُعرف بـ"يوم دوران المحمل"، وهي عادة مملوكية حافظ عليها المماليك لقرنين من الزمان، لتشجيع الناس على أداء الحج، ولإعطاء مصر مكانتها بين الأقاليم الإسلامية، إذ كانت المسؤولة عن إرسال كسوة الكعبة المشرفة.
وتسرد جريدة "الشروق" أهم المعلومات عن تاريخ وأوصاف احتفالات دوران المحمل المرتبطة بخروج موكب الحجاج ومعهم كسوة الكعبة المشرفة كل عام، وقد وردت معلومات عن ذلك الاحتفال في كتب: النجوم الزاهرة في سماء مصر والقاهرة لابن تغري بردي، وبدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، وعجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي.
مستوحى من رحلة شجر الدر وحافظ عليه بيبرس
يقال إن فكرة المحمل، الذي يتقدم موكب الحجاج والكسوة، بدأت مع رحلة شجر الدر، السلطانة التي بدأت عصر المماليك، وكانت تتقدم موكب الحجاج ومعها الكسوة المصرية للكعبة، والعادة أن النساء يسافرن على الجمال داخل "هودج"، وهو صندوق مخصص للركوب، وفي ذلك كان هودج السلطانة بأحسن زينة، تجعل الموكب ملفتًا للأنظار. ليأتي بعد سنوات فترة حكم بيبرس البندقداري، الذي أراد تشجيع الناس على فريضة الحج، فابتكر عادة دوران المحمل، حيث يُوضع هودج مزين على جمل، ومن خلفه الجمال الحاملة للكسوة الشريفة، وحولها الفرسان، ليدور عبر شوارع القاهرة للإعلان عن بدء موسم الحج، فيخرج من أراد السفر مع الموكب. ولم يكن دوران المحمل بهيئة احتفالية كاملة في عهد بيبرس، وغلب عليه البساطة، ولكن مع استقرار الوضع في عصر الناصر قلاوون، بدأت مظاهر دوران المحمل تتخذ الطابع الاحتفالي الذي يحضره الناس من شتى الأقاليم، وقد بلغت تلك الاحتفالات ذروتها من الزينة والاهتمام في عصر السلطان ظهير الدين خوشقدم.
وصف المحمل
ويُذكر أن المحمل ليس هو الجمل الذي يحمل كسوة الكعبة، وهي كبيرة الحجم تُحمَل على ظهور عشرات الجمال، ولكن المحمل هو الجمل الذي يتقدم الموكب بهودج له شكل هرمي مميز، يغطيه الحرير، وتعلوه القباب الفضية، وفي الأغلب يُوضع بداخله مصحف.
بالعفاريت وخيالة الرماحة
وتسبق دوران المحمل عدة طقوس وله مراسم خاصة، إذ يبدأ الإعلان عن موعد المحمل في منتصف شهر رجب، وهو وقت خروج الكسوة وموكب الحجاج الأول، بينما يخرج موكب ثانٍ في شوال. وبعد الإعلان عن الموعد، يتم تزيين المحلات والمنازل خلال 3 أيام، ويتوافد الناس من الأقاليم على ما يُعرف بسوق المحمل لانتظار مشاهدة العروض الاحتفالية البهيجة.
يبدأ العرض بخروج الجمل الذي عليه الهودج المميز بقبّته من الفضة وغطائه الحريري، وحوله الخيالة يخرجون به من قلعة الجبل، ليستقبلهم أعيان الدولة من القضاة، ومعهم أمير الحج، ليسير المحمل في شوارع القاهرة، وحوله ما يُعرف بـ"الرماحة"، وهم 40 من فرسان المماليك، يلبسون الثياب الحمراء، ومدجّجون بالدروع اللامعة، بينما يؤدون الحركات القتالية والمناورات باستخدام رمح الفرسان، حيث هيمنت على معارك العصور الوسطى استخدام الفرسان المدجّجين بالرماح لاقتحام الصفوف.
ويتم تدريب مماليك "الرماحة" قبل دوران المحمل بفترة، ويُسمى قائد تلك الفرقة بـ"المعلم"، بينما يتبعه 4 قادة أصغر يُعرفون بـ"الباشات"، وكل منهم مسؤول عن 10 فرسان يدربهم على العرض، وقد أنشدت المصريات الأهازيج حول عرض الرماحة، ومن ذلك: "بعت اللحاف والطراحة، لأجل أشوف دي الرماحة".
عفاريت المحمل والرعب المبهج
وقد اعتاد عوام المصريين على الاحتفال بطريقة خاصة، حيث يلبس بعض المهرجين الأقنعة، ثم يؤدون الحركات البهلوانية لإبهار المحتفلين، ولكن سرعان ما قلّد المماليك نفس الفعل، وخاصة مماليك "الجلبان"، وهم النوع المعروف بسوء الأخلاق، فتحولت العادة إلى تصرف مرعب يهدف لترويع المحتفلين وسرقة نقودهم، وقد تصدى السلاطين لتلك العادة في وقت لاحق.
وكان المحمل يدور مرتين يوميًا خلال 3 أيام بين القاهرة والفسطاط، وكان الناس من حوله يقومون بإشعال "الحراقات"، وهي نوع قديم من الألعاب النارية انتشر في عهد المماليك.
ويُذكر أن دوران المحمل شهد فترة من التوقف منذ عهد السلطان الأشرف إيتباي، ولكن بعد عشرات السنين أعاد تلك العادة السلطان قانصوه الغوري، وهو من آخر سلاطين المماليك، قبل أن يتحول الحكم إلى الدولة العثمانية، التي أبقت على عادة المحمل وخروج الكسوة من مصر، ولكن ما تغير أن العثمانيين غيّروا موعد المحمل من رجب إلى شوال، وكان الوالي يحرص على حضور الاحتفال ومتابعة خروج الكسوة، التي كان يتم حياكتها داخل جامع الحسين قبل دوران المحمل بأيام. وقد استمرت تلك العادة في مصر الخديوية وعهد أسرة محمد علي حتى توقفت تمامًا عام 1952، مع العلم أن آخر كسوة مصرية خرجت في قافلة المحمل كانت سنة 1926.