على ساحة معبد دندرة التاريخي، حيث يلتقي وهج الحجارة بروح الإنسان، احتشدت قلوب الجنوب لتشهد ميلاد دورة جديدة من مهرجان قنا الدولي للفنون والتراث، الذي أقيم تحت رعاية الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في مشهد يعيد تعريف علاقة الناس بتراثهم، ويحول الإيقاع إلى مشروع حياة.
وسط أجواء احتفالية مبهرة، افتتح المهرجان بحضور الدكتور خالد عبدالحليم، محافظ قنا، والناقد الفني هيثم الهواري رئيس مؤسسة "س" للثقافة والإبداع ورئيس المهرجان، إلى جانب الدكتورة يمنى البحار نائب وزير السياحة، والدكتور أيمن الشهابي محافظ دمياط، والمهندس عبدالمطلب عمارة محافظ الأقصر، والدكتور حازم عمر نائب محافظ قنا، واللواء سامي علام السكرتير العام للمحافظة، والدكتور مصطفى وزيري الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، وعدد من القيادات التنفيذية والشعبية وجمهور واسع من أبناء قنا ومحبي الفنون.
فمن أمام المعبد العريق، بدأ المشهد بإيقاع جنوبي خالص؛ طبلة تقود، مزمار يرد، وتنورة تقطع الضوء في دوائر كاملة. لم يكن الجمهور متفرجا بل مشاركا يعرف النغمة ويحفظ الإيقاع، وكأن العرض يعيد طقس الانتماء الأول إلى الأرض.
على المسرح، عادت الربابة لتروي الحكايات القديمة، والتحطيب ليمنح الجسد الجنوبي فخره القديم في منافسة نبيلة، بينما تسيل نبرة الإنشاد الصوفي في الخلفية كخيط ضوء يربط الماضي بالحاضر.
وراء المسرح، كانت الحياة تدور بإيقاع آخر: أنوال تدور، خوص منقوش، فخار مصقول، وكليم يلتقط الضوء من خيوطه. لا حواجز بين الصانع والمشتري، بل حوار حي بين اليدين والعينين. هنا يتحول التراث من تذكار إلى اقتصاد حي، يحمل توقيع قرية وزمن من التعلم والإتقان.
المهرجان، كما يوضح منظموه، لا يكتفي بعرض الفنون، بل يتعامل مع التراث كقيمة إنتاجية. في الورش المفتوحة تنقل أسرار الصنعة إلى الشباب، وفي الجلسات التعريفية يتعلم الحرفيون تصميم الهوية البصرية لمنتجاتهم وربطها بالأسواق الحديثة.
يقول أحد القائمين على التنظيم: "نحن لا نعرض الذاكرة، نحن نشغلها... حين تتحول الحرفة إلى مصدر دخل، يصبح الإبداع حياة كريمة."
ولم تقتصر الفعاليات على مركز المدينة؛ بل امتدت إلى القرى والنجوع، لتعيد الألعاب الشعبية إلى ساحاتها الأولى: السيجا، المرماح، والكرة الشراب. هكذا خرج الفن من القاعات المغلقة إلى الهواء الطلق، ليصبح جزءا من الحياة اليومية، لا مناسبة موسمية.
مع ختام الافتتاح، عمت مشاعر الفخر والاعتزاز بتراث الصعيد، حيث أشاد الحضور بالتنظيم الدقيق والعروض المتنوعة، مؤكدين أن المهرجان بات منصة ثقافية سنوية ترسخ مكانة قنا كعاصمة للتراث والفن الأصيل في صعيد مصر، وواجهة حقيقية للسياحة الثقافية التي تمزج بين الإبداع والمعرفة والعمل.