أن يستبدل طالب جامعي في أمريكا هاتفه الذكي بآخر قديم مزوّد بأزرار أو قابل للطي، فذلك لا يُعد مجرد "حنين تقني"، بل فعل مقاومة واعٍ ضد نمط من الحياة بات يفرض على البشر أن يكونوا متصلين طوال الوقت، وأن يقيسوا تفاعلهم الإنساني بعدد الإشعارات واللايكات.
هذا ما قرّره طلاب أمريكيون أطلقوا على حركتهم اسم "Appstinence"، في تلاعب لغوي يجمع بين "Application" (تطبيق) و"Abstinence" (الامتناع)، كمحاولة للامتناع عن التطبيقات لا عن التكنولوجيا نفسها، واستعادة زمام السيطرة على الوقت والتركيز والعلاقات الاجتماعية التي تآكلت بفعل الاستخدام المفرط للهواتف الذكية.
لكن السؤال الأوسع هنا: هل يمكن استخدام الهاتف الذكي دون الوقوع في فخ الإدمان؟
* إدمان خفي
بحسب صحيفة The New York Times، فإن استخدام الهاتف الذكي يحفّز إفراز الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرتبط بالشعور بالمكافأة والسعادة. هذه "الجرعة الصغيرة" من السعادة المؤقتة تدفع الدماغ للمطالبة بالمزيد، في دائرة تتكرّر كلما لمس المستخدم شاشة هاتفه.
ويصف نصف مستخدمي الهواتف الذكية حول العالم أنفسهم بـ"المدمنين"، وفقًا لبيانات عالمية تشير إلى وجود نحو 5 مليارات مستخدم نشط، أي ما يعادل أكثر من 60% من سكان الكرة الأرضية.
ويظهر هذا الإدمان في سلوكيات مثل:
- الاكتفاء بالعلاقات الافتراضية بدلًا من الواقعية
- التصفح غير الهادف بدافع القلق أو الفضول
- الإفراط في الألعاب
- الانشغال المستمر بالذات ومراقبة الآخرين
بحسب دراسة صادرة عن جامعة Waterloo الكندية، فإن هذه الممارسات لا تُفقدنا الوقت فقط، بل تُنتج أعراضًا نفسية وفسيولوجية مشابهة لإدمان الكحول والمخدرات، مثل اضطرابات النوم، ضعف التركيز، الأرق، القلق، وانخفاض القدرة على التفكير العميق.
أما موقع HelpGuide للصحة النفسية فيوضح أن الكثير من الناس يستخدمون هواتفهم هربًا من مشاعر القلق، الاكتئاب، أو الوحدة، أو لأنهم يفتقرون إلى مهارات تواصل حقيقية. ويُعدّ هذا النمط أحد أسباب استمرار الاعتماد المفرط على الأجهزة الذكية، خاصة في غياب البديل الاجتماعي الواقعي.
* الهاتف.. العدو الصامت للإنتاجية
الإشكالية لا تقتصر على الصحة النفسية فقط، بل تمتد إلى الإنتاجية وجودة التفكير. ففي دراسة نشرها موقع Psychology Today، تبيّن أن الهواتف الذكية تعيق قدرة الإنسان على بلوغ ما يسمى بحالة "التدفق الذهني"، وهي حالة ذهنية من الانغماس الكامل والتركيز في مهمة محددة.
وبحسب الدراسة نفسها، فإن المستخدمين يتفقدون هواتفهم كل 18 دقيقة في المتوسط، كما يبدأ معظمهم يومه بنظرة للهاتف خلال أول خمس دقائق بعد الاستيقاظ، وينهيه على الشاشة كذلك.
هذا الانشغال اللحظي المستمر يُحطّم القدرة على التركيز المتواصل، وهو ما يفسر الشكوى الشائعة من "ضعف الإنتاجية" أو "عدم الإنجاز رغم ساعات العمل الطويلة".
* هل من مخرج؟ خطوات عملية للخروج من الفقاعة
رغم الإغراءات المستمرة، يمكن استخدام الهاتف الذكي دون الوقوع في فخ الإدمان، عبر خطوات بسيطة لكنها فعّالة، منها:
تفعيل وضع التدرج الرمادي: مما يقلل من سطوع الألوان وجاذبية الشاشة.
حذف تطبيقات التواصل الاجتماعي أو تعطيل إشعاراتها، والإبقاء فقط على ما يرتبط بالعمل.
إزالة تطبيقات الألعاب من الهاتف، واستخدامها من الحاسوب إذا لزم الأمر.
استخدام متصفح بسيط لا يدعم تطبيقات التواصل، مثل Dillo أو أنظمة Linux المبسطة.
وبعيدًا عن التقنية، يشير خبراء الصحة النفسية إلى أهمية تخصيص وقت واقعي للعلاقات الاجتماعية، كالخروج مع الأصدقاء أو لقاء العائلة، إلى جانب ممارسة أنشطة بدنية أو التفاعل مع الطبيعة، وهو ما يعزز شعور الإنسان بذاته خارج دائرة المقارنة الافتراضية.
* استعادة السيطرة.. لا إلغاء التكنولوجيا
لا يدعو أحد إلى التخلي التام عن الهواتف الذكية، ولكن الاستخدام الواعي هو ما يضمن أن تبقى التكنولوجيا أداة في أيدينا، لا نحن أسرى في قبضتها.
فالعلاقات الاجتماعية، والإنجاز الشخصي، والتوازن النفسي، لا تُقاس بعدد المتابعين أو الرسائل الواردة، بل تُبنى في الواقع، بالصبر، والمشاركة، والانتباه للحظات التي تمضي.
ولعل تجربة هؤلاء الطلاب في الاستغناء المؤقت عن التطبيقات، ليست دعوة للعزلة، بل لإعادة تعريف الاتصال الحقيقي.. بعيدًا عن الشاشات.