إصرارنا على التحذير من خطر الغلو فى الأشخاص أو الهيئات ينبع من رؤيتنا لضرورة النقد الموضوعى لكل من تصدى للعمل السياسى كضمان لعدم انحرافه عن النهج السليم تأسيسا على قول أبى بكر (إن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى)... أقول إن هذا الإصرار يتوازن مع حرصنا الشديد على المحافظة على الكيانات الإسلامية الكبيرة التى تحملت عبء الدعوة الإسلامية على مدار عقود وبذلت فى سبيل ذلك ما لا تنكره إلا عين حاقد.
وثمة فارق كبير بين احترام الهيئات وتوقيرها وبين رفعها إلى منزلة التقديس التى تفضى بالأنصار ليس فقط إلى الغلو فى من تقدسه وإنما تعمى وتصم عن رؤية الحق إذا ما أتى عن غير طريق مقدسهم؛ وحديث (حبك الشىء يُعمى ويُصم) يصلح عنوانا معبرا عن هذه الحالة ولا شك؛ فما يعود للإنصاف حال المحبة أو الخصومة مكان.
اختلف المهاجرون والأنصار على فريقين يوم علم «عمر بن الخطاب» أن الطاعون قد ضرب دمشق وهو إذ ذاك فى طريقه إلى الشام؛ فدعاهم ليستشيرهم؛ فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه؛ وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء؛ فكان آخر أمره أن عزم على الرجوع فلم يدخل دمشق.. وقتها عارضه أبوعبيدة بقوله: أفرار من قدر الله؟ ورغم ما فيها من اتهام صريح إلا أن أحدا لم يراجع أبا عبيدة فيما قاله؛ وتقبلها منه عمر بقبول حسن؛ قائلا: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.
كان لابد أن يدفع عن نفسه تهمة الجبن؛ وأن يبرهن على قراره بالأسلوب العلمى المنطقى المقنع؛ ولاحظ أن «عمر» هنا يتحدث بوصفه قائدا سياسيا يصيب ويخطئ؛ فنزع عن نفسه كل أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى زكَّته ورفعت قدره على من سواه؛ كمثل حديث: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) أو حديث: (لو كان نبى من بعدى لكان عمر بن الخطاب) أو غيرهما؛ فلم يستخدم أيا من ذلك سلطانا لنهر من استجوبه... مثال نهمس به فى أذن من يملأ الدنيا ضجيجا عن مخاوف الدولة الدينية ونقول له لم يعرفها الإسلام يوما؛ وأجدنى مدفوعا أيضا أن أهمس به فى أذن من يغالى فى حب شخص ينتمى إلى التيار الإسلامى ولا يقبل أن ينتقد محبوبه أحد!
حينما نجلس مع المختلفين معنا فى الرؤية والتوجه لننقذ وطنا من الغرق فى بحور من الدم فإننا بذلك نسير على هدى نبينا صلى الله عليه وسلم يوم قال: «والله لو سألونى خُطة يعظمون فيها حرمات الله لأجبتهم».. كان يتحدث عن مشركى قريش الذين ناصبوه العداء وأخرجوه وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ لو أرادوا مراعاة الحرمات فسيصل معهم إلى اتفاق؛ فكيف لا أتفق مع مصريين مثلى على وقف نزيف الدم والوصول إلى كلمة سواء ننقذ بها وطنا بأكمله؟
الحوار الوطنى فى غاية الأهمية؛ لكن ضربا من العبث أن نبدأ حوارا وطنيا يفاجأ أطرافه بعد ذلك بتصريحات قيادات الإخوان أن نتائج الحوار غير ملزمة فيضج أكثر الناس حلما ولسان حاله ينطق أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم؟ هل مازالت جماعة «الإخوان المسلمين» حتى اللحظة لا تُدرك خطورة لعبة تبادل الأدوار بين قياداتها؟ هذه ليست مهارة ولا حنكة سياسية كما قد يسول الشيطان أو تزين النفس الأمارة بالسوء؛ إنما هى مهارة لا يُحسد عليها صاحبها فى حشد أكبر كم ممكن من الأعداء فى خانة واحدة.