دليل الرقابة فى الصين - دوريات أجنبية - بوابة الشروق
الخميس 28 أغسطس 2025 10:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمبارة الأهلي وبيراميدز ؟

دليل الرقابة فى الصين

نشر فى : الأربعاء 27 أغسطس 2025 - 8:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 أغسطس 2025 - 8:35 م

نشرت مجلة Foreign policy مقالا للكاتب جيمس بالمر، تناول فيه الرقابة فى الصين، حيث إنها ليست مجرد قرار سياسى أو خط أحمر واضح؛ إنها شبكة معقدة من الممنوعات والقيود، تتغير حدودها بين لحظة وأخرى. وراء كل كتاب أو فيلم أو مقال يُنشر هناك معركة خفية بين المبدع والرقابة، معركة لا تخضع دائمًا للقواعد بقدر ما تخضع للظروف السياسية. فما الذى يجعل هذه الرقابة مختلفة؟ وكيف تتشكل مراحلها من الفكرة الأولى وحتى لحظة النشر أو الحظر؟.. نعرض من المقال ما يلى:


المراحل المتعددة للرقابة فى الصين

 


عندما نسمع عن حظر الكتب أو الأفلام أو حتى الأفكار فى الصين، فإننا نتخيل عادةً آلة رقابية ضخمة تعمل وفق خطة منظمة وأيديولوجية صارمة. لكن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. الرقابة هناك فوضوية، متناقضة، مليئة بالثغرات، وأحيانًا عشوائية بشكل يثير الدهشة. إنها عملية يومية معتادة، لكنها فى الوقت نفسه مليئة بالمفاجآت.
منذ عقود، هناك موضوعات محرمة بوضوح فى الإعلام الصينى، مثل الحديث عن كبار المسئولين وأسرهم، أو وضع تايوان، أو شرعية حكم الحزب الشيوعى الصينى. الصحفيون والكتّاب يمارسون ما يشبه «الرقابة الذاتية»، فيتجنبون تلك الخطوط الحمراء قبل أن يقتربوا منها. لكن حتى مع الحذر، يمكن أن يقع الخطأ. ففى عام 2009 مثلًا، عوقب صحفيو جلوبال تايمز بسبب تقرير عن مصنع ورق قيل إنه الأكبر فى الصين والثانى فى العالم. المشكلة أن المصنع الأكبر حينها كان فى تايوان، ما أوحى ضمنيًا بأن تايوان ليست جزءًا من الصين، وهو ما اعتُبر تجاوزًا غير مقصود.
الأكثر خطورة أن هذه «الخطوط الحمراء» ليست ثابتة؛ بل تتغير، وغالبًا للأسوأ. ففى شينجيانج مثلًا، كان ممكنًا فى الفترة بين أحداث الشغب عام 2009 والهجوم الإرهابى عام 2014، نشر مقالات ـ حتى فى الإعلام الرسمى ـ تشير إلى التمييز ضد الأويجور من جانب الأغلبية «الهان». لكن بحلول 2017، ومع بدء الحملة الواسعة على الأويجور، أصبحت أى إشارة لشينجيانج محل تدقيق صارم.
ورغم ذلك، تبقى مساحة رمادية لموضوعات شديدة الحساسية، مثل الثورة الثقافية أو الفساد أو عدم المساواة الاجتماعية. التطرق إليها ليس مستحيلًا، لكنه أشبه بالسير على حافة السكين: خطوة خاطئة قد تكلفك الكثير. لهذا السبب، يفضل كثير من الكتّاب والفنانين تجنبها من الأساس. كما تقول كاتبة تلفزيونية صينية: «يمكنك أن تقضى أسابيع فى إعداد عمل، ثم يُلغى فجأة، فتقرر المرة التالية كتابة مسلسل ممل لربّات البيوت بدلا من المغامرة».
وأحيانًا، لا تكون المشكلة فى الرقابة المباشرة، بل فى عمق الموضوع نفسه. أحد الكتّاب الذين تحدثت معهم عام 2009 (وغادر الصين لاحقًا عام 2021) أجرى بحثًا مطولًا عن إساءة معاملة الأطفال فى دور الأيتام. لكنه اعترف بحسرة: «الوضع سيئ للغاية. لو كان سيئًا قليلًا، لتمكنت من الكتابة، لكنه سيئ لدرجة لا يمكن معها نشر أى شىء».
• • •
بعد كتابة أى نص، يخضع لمرحلة «الرقابة الداخلية» عبر المحررين والناشرين. هؤلاء لا يحملون لقب «رقباء»، لكنهم فى الواقع يتحملون المخاطر الأكبر، لذلك يراجعون الأعمال الحساسة بحذر. وغالبًا ما يُسند الأمر إلى شخصيات ذات خبرة سياسية أو عملت فى مؤسسات كبرى مثل وكالة أنباء شينخوا.
المحرر فى الصين لا يركز على جودة النص بقدر تركيزه على «هل قد يسبب هذا مشاكل؟». ولهذا نجد أن كثيرًا من الكتب تُنشر كما كُتبت تقريبًا، باستثناء التعديلات السياسية المطلوبة.
ظاهرة لافتة أخرى هى «الروايات الإلكترونية» التى يكتبها مؤلفون عبر الإنترنت. هذه الأعمال غالبًا لا تمر برقابة مشددة فى البداية، وتتناول موضوعات محظورة فى النشر الرسمى، مثل السحر. وعندما تُحوَّل لاحقًا إلى كتب أو أفلام، تُجرى عليها تعديلات لإرضاء الرقابة. مثلًا رواية «شبح يطفئ النور»، وهى أشبه بمغامرات إنديانا جونز. عند نشرها رسميًا، تحولت الأشباح إلى «أوهام» من فنج شوى، فى محاولة ذكية لإخفاء ما هو خارق وراء عباءة الطب الصينى التقليدى.
بعد هذه المراحل، يصل العمل إلى الدولة للمراجعة الرسمية النهائية، سواء كان كتابًا أو فيلمًا أو مسلسلًا. وهنا تكمن المفارقة: قد تمر مواد مثيرة للجدل بسهولة لأن الرقيب لم ينتبه جيدًا، بينما تُرفض أعمال أخرى غير متوقعة بسبب قراءة متعسفة. فى بعض الأحيان، تتدخل العلاقات الشخصية أو مسئول نافذ لإنقاذ عمل فنى من المقصلة.
نادراً ما يُحظر العمل بالكامل؛ الأكثر شيوعًا هو المطالبة بتعديلات. لكنها تعديلات قاسية، لأنها تأتى فى مرحلة متأخرة لا تسمح بإعادة التصوير أو الكتابة. والنتيجة: حذف مشاهد أو فقرات مهمة تترك ثغرات كبيرة. فيلم بعد الصدمة (2010) مثال واضح، إذ بدت شخصية الأم بالتبنى غاضبة بلا سبب مقنع، حتى اتضح أن الرواية الأصلية تضمنت مشاهد عن تحرش الأب بالتبنى بابنته، لكنها حُذفت فى اللحظة الأخيرة.
• • •
الرقابة لا تنتهى عند النشر. أحيانًا، يحقق عمل ما نجاحًا غير متوقع يثير قلق السلطات. كتاب تحقيق فى أحوال الفلاحين الصينيين (2004) ـ المعروف بالإنجليزية بعنوان هل سيغرق القارب الماء؟ ـ بيع بملايين النسخ قبل أن يُحظر. لكن المنع لم يوقف انتشاره، بل ظهرت منه نسخ مقرصنة بكثرة، حتى إن رئيس الوزراء ون جيا باو أشاد به علنًا، ما أنقذ مؤلفيه من العقاب.
الخطر الأكبر يواجه الأعمال الارتجالية التى لا تمر برقابة مسبقة، مثل المسرح أو الكوميديا. ففى 2023، أدت نكتة عابرة عن الجيش الصينى إلى حملة واسعة ضد الكوميديين.
تعمل هذه الرقابة كلها ضمن سياق سياسى أكبر. فى الماضى، كانت تمر الصين بدورات من الانفتاح ثم التشديد، لكن منذ تولى شى جين بينج الحكم، أصبحت المسيرة تسير فى اتجاه واحد: مزيد من الرقابة، وقليل من المخاطرة.
يختتم الكاتب، وبينما ينشغل الكتّاب والمبدعون فى الصين بمحاولة النجاة وسط هذه المتاهة الرقابية، لا يسع من يعيش فى المجتمعات الحرة إلا أن يشعر بالامتنان لحرية التعبير.. على الأقل حتى الآن.
• • •
فى النهاية، تكشف التجربة الصينية عن أن الرقابة ليست مجرد أداة سياسية للسيطرة على الكلمة، بل هى أيضًا معركة يومية يعيشها الكتّاب والفنانون بين الرغبة فى الإبداع والخوف من المنع. هى رقابة تتحرك بخطوط حمراء غير ثابتة، تتوسع حينًا وتضيق أحيانًا، لكنها فى جميع الأحوال تترك أثرًا عميقًا على الثقافة والمجتمع. وبينما يواصل المبدعون هناك محاولاتهم للالتفاف على القيود، يبقى السؤال مطروحًا: إلى أى مدى يمكن للفن أن يزدهر فى ظل جدران الرقابة المتزايدة؟

 


مراجعة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلى:

 


https://bitly.cx/FA4W

التعليقات