شهدت الأسابيع الأخيرة الإعلان عن موجة من المشروعات القومية العملاقة يأتى على رأسها:
١- قناة السويس الجديدة وما تشمله من توسيع وتعميق للمجرى الحالى وكذلك حفر تفريعة جديدة موازية وعدة أنفاق تحت القناة. ٢- تطوير إقليم قناة السويس وجعله مركزا لوجستيا وصناعيا. ٣- المثلث الذهبى للتصنيع ويستهدف الاستفادة من الثروات المعدنية فى صحراء مصر الشرقية. ٤- إحياء مشروع توشكى المتعثر والذى تم إطلاقه فى ١٩٩٧. ٥- استصلاح ٤ ملايين فدان زراعى فى سيناء والصعيد لتنمية هذه المناطق وزيادة الحصيلة الزراعية. ٦- مدينة العلمين الجديدة والتى تهدف لإحداث تنمية متكاملة فى منطقة الساحل الشمالى الغربى. ٧- بناء شبكة طرق تبلغ نحو ٣ آلاف كيلو متر تربط المحافظات المختلفة، وتسعى لتطوير حركة النقل والتجارة.
•••
وتوضح المشروعات القومية عزم الدولة على قيادة التنمية وتحريك عجلة الاقتصاد، لكنها تأتى بتكلفة مالية كبيرة مع حجم المشروعات المطروحة، وعلى الرغم من أهمية النظر للتكفلة المالية فإنه من المهم أيضا النظر لما يعرف بتكلفة الفرصة البديلة لهذه المشروعات. فصانع القرار دائما ما تكون لديه خيارات متعددة، مثل إطلاق مشروع قومى جديد أو استكمال مشروع سابق أو تسديد متأخرات على الحكومة أو تطوير قطاع خدمى أو ما خلافه، فاختيار مشروع بعينه يعنى التضحية بمشروع آخر. ولذلك فمن الضرورى الأخذ فى الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة للنظر لهذه المشروعات بشكل استراتيجى ومتكامل. وفى هذا الصدد يمكن التركيز على عدة جوانب رئيسية:
أولا: طبيعة المشروعات القومية:
المشروعات القومية كالتى تم إطلاقها طويلة المدى بطبيعة الحال وعادة ما تتم على عدة مراحل حتى تكتمل ويأتى العائد منها متأخرا حيث تحتاج الحكومة لتطوير المناطق الجديدة والاستثمار فى البنية التحتية لعدة سنوات، إن لم تكن عقودا، حتى تصل لمرحلة تتيح للقطاع الخاص الاستثمار والتطوير. وبطبيعة الحال تحتاج هذه المشروعات لمصادر للطاقة، سواء كهرباء أو غازا، لتلبية احتياجات المصانع والمجمعات السكنية الجديدة، ولا يخفى على أحد العجز الذى توجهه مصر فى الطاقة مقارنة بمستويات الاستهلاك الحالية.
ثانيا: التجارب السابقة والدراسات الغائبة:
مصر ليست حديثة عهد بالمشروعات القومية وتجاربها فى هذا الصدد شديدة التباين، فمنها ما نجح كالسد العالى، ومنها ما دون ذلك كتوشكى، والذى لم يحقق المستهدف منه باستصلاح ٦٠٠ ألف فدان على الرغم من مرور ١٧ عاما على تدشين المشروع مما يوضح أن الواقع فى بعض هذه المشروعات قد يكون مغايرا عن الدراسات المبدئية. ومع حجم المعلومات الضئيل الذى يتم تداوله، والذى يشير إلى عدم وجود دراسات كافية عن هذه المشروعات، فإن مخاطرة هذه المشروعات شديدة الارتفاع وعائدها المتوقع تحوطه علامات استفهام كبيرة.
ثالثا: التمويل والقطاع المصرفى:
تتسم المشروعات القومية الكبرى بميزانية تطويرها الضخمة مما يجعل من الصعب تمويلها حاليا من داخل موزانة الحكومة التى تعانى عجزا متصاعدا منذ الثورة مما يدفع لتمويلها خارج الموازنة، كما هو الحال فى طرح شهادات استثمار قناة السويس الجديدة والتى تسعى لجمع ٦٠ مليار جنيه. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يمثل نحو ٣٪ من إجمالى أصول القطاع المصرفى فإنه بعد الأخذ فى الاعتبار ما تم توظيفه بالفعل فى السندات الحكومية وتمويل العملاء، فإن الشهادات المطروحة تمثل حوالى ١٤٪ من صافى الأصول غير المستغلة، مما يشير إلى الحجم النسبى الكبير لهذا المشروع، والذى يأتى كطليعة لموجة من المشروعات سيؤدى تمويلها من خلال البنوك المحلية إلى أزمة سيولة حقيقية فى القطاع المصرفى على المدى المتوسط، خاصة مع حاجة القطاع للاستمرار فى تمويل عجز الموازنة. ولذلك فإن مثل هذه المشروعات تضغط بشدة على القطاع المصرفى وتحد من قدرته على تمويل القطاع الخاص الذى يعانى من مزاحمة الدولة له بأشكال متعددة.
رابعا: المشكلات الآنية الطارئة:
تعانى مصر مشكلات هيكلية متصاعدة، يأتى على رأسها مشكلة الطاقة والتى تمثل ضغطا حقيقيا على المصانع التى تعانى من انقطاع الطاقة بشكل دورى. وقد تتراوح خسائر المصنع الواحد للصناعات الثقيلة من نصف مليون إلى مليون جنيه فى الساعة الوحدة لانقطاع الكهرباء، فى حالة الإعلام المبكر. ولعل من أسباب هذه المشكلة هو نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، والذى نتج عن عدم التوسع فى الإنتاج نتيجة تراكم مديونية شركات البترول الأجنبية لدى الهيئة العامة للبترول لما يتخطى ٦ مليارات دولار. ولعله كان من الأولى العمل على تسوية هذه المديونية بأقصى سرعة لاستعادة ثقة هذه الشركات وحثها على التوسع فى الاستكشاف والإنتاج بشكل يقلل من عجز الوقود الحالى. وينطبق نفس الكلام على العمل على تسوية مشاكل المستثمرين الحاليون سواء المحليين أو الأجانب قبل إطلاق مشروعات جديدة لجذب استثمارات جديدة.
•••
الخلاصة أن موجة المشروعات القومية العملاقة التى تم إلاعلان عنها مؤخرا لها تكفلة غير مباشرة، وهى تكلفة الفرصة البديلة الناتجة عن توجيه الموارد الاقتصادية المحدودة للمشروعات الجديدة، طويلة الأجل والمشكوك فى عائدها، على حساب التضحية بحل الكثير من المشكلات الآنية الطارئة، التى تمثل عائقا حقيقيا للأنشطة الاقتصادية القائمة، مما يجعل من الضرورى انتهاج توجه تدريجى فى دراسة وإطلاق هذه المشروعات بشكل يتناسب مع موارد الاقتصاد وأولوياته.