هوية مصر بين الماضى والتريند - الأب رفيق جريش - بوابة الشروق
الأحد 9 نوفمبر 2025 11:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

هوية مصر بين الماضى والتريند

نشر فى : السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:10 م | آخر تحديث : السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:10 م

فى السنوات الأخيرة، شهدت مصر تحولًا عميقًا فى خريطة الترفيه والإعلام؛ فلم يعد التلفزيون هو الشاشة الأولى، ولا المسرح هو مركز التجربة الفنية الحية، بل تحول الجمهور تدريجيًا إلى منصات رقمية مفتوحة، يتصدرها تطبيق «تيك توك» ومنصات مثل «فيسبوك» و«يوتيوب». هذا التحول لا يتعلق فقط بتغير الوسيلة، وإنما بتغير شكل المتلقى نفسه؛ فالجيل الذى كان يجتمع أمام مسلسل فى رمضان أو يشترى تذاكر مسرحية جديدة، أصبح اليوم يتابع مشهدًا كوميديًا مدته عشر ثوانٍ، أو رقصة، أو بثًا مباشرًا يقدمه شاب مجهول من هاتفه المحمول، ويحصل فى ساعات على جمهور أكبر مما تحققه مسرحية كاملة خلال شهر.
«تيك توك» على وجه الخصوص لم يعد مجرد منصة فيديو خفيفة، بل مساحة عرض، ومسرح شعبى رقمى، ومصدر شهرة سريعة، ومنبر للنقد والسخرية، وأحيانًا بديل عن الإعلام التقليدى. هذا التحول يطرح سؤالًا حقيقيًا: هل انتهى زمن التلفزيون والمسرح بالفعل، أم يعيش حالة تراجع مؤقت لصالح صدمة الجيل الرقمى؟ فى مصر، يمكن ملاحظة أن التلفزيون فقد جزءًا من نفوذه الثقافى والسياسى معًا؛ فلم تعد نشرات الأخبار تصنع الرأى العام كما كانت، ولم تعد المسلسلات وحدها تحدد شكل النقاش الاجتماعى. المنصات الرقمية هى التى تصنع الترند، وهى التى تكشف القضايا، وهى التى تدفع الدولة أحيانًا إلى التعليق أو التحرك، بعدما كان ذلك يتم عبر الصحف والبرامج السياسية الثقيلة.
لكن فى المقابل، هذا الصعود الرقمى لا يعنى بالضرورة اختفاء الوسائل القديمة، بل إعادة تعريف دورها. أصبح التلفزيون وسيلة رسمية أكثر منه مساحة للتعبير، وفقد المسرح جمهوره الجماهيرى الواسع، لكنه لم يفقد قيمته؛ إذ بقى مركزًا للنخبة الثقافية ولتجارب فنية لا يستطيع «الترند» ابتلاعها. وهنا تظهر أزمة مزدوجة: كيف تتعامل الدولة مع جيل إعلامى لا يمكن ضبطه بالتوجيه القديم؟ وكيف تحافظ الفنون التقليدية على قيمتها أمام جيل يستهلك ثقافة سريعة لا تتجاوز الدقيقة؟
الوضع فى مصر اليوم يعكس معادلة متناقضة: من جهة، هناك استثمار ضخم فى مشاريع ثقافية كبرى مثل المتحف المصرى الكبير ومدينة الفنون بالعاصمة الإدارية، ومن جهة أخرى هناك تراجع فى حضور المسرح المدرسى والجامعى ومراكز الثقافة العامة. فى الوقت نفسه، يحقق شاب على «تيك توك» شهرة قد تفوق فنانًا محترفًا يحاول الوصول إلى خشبة مسرح الدولة منذ سنوات. وإذا كانت السوشيال ميديا تمنح حرية وفرصة، فإنها تمنح أيضًا فوضى وابتذالا وسرعة تستهلك أى محتوى قبل أن يكتمل.
لا يمكن للدولة أن تتجاهل حقيقة أن المعركة لم تعد بين التلفزيون والمنصات الرقمية فقط، بل بين ثقافة تصنع الوعى وثقافة تبتلعه سريعًا دون أثر. وإذا أرادت مصر الحفاظ على هويتها الثقافية، فعليها أن تواكب هذا التحول بدل مقاومته، وأن تستثمر فى محتوى شبابى ذكى ينافس «تيك توك» بدل الاكتفاء بالتحذير منه. فالمجتمع الذى لا يملك خطابًا موازيًا، سيجد نفسه محكومًا بخطاب عشوائى يصنعه «الترند» لا صُنّاع القرار.
إن بناء مصر الحديثة لا يمر فقط عبر الاقتصاد والمشروعات الكبرى، بل عبر استعادة مكانة العقل المصرى فى عصر الفكرة السريعة والصورة العابرة. وإذا كان التاريخ قد علمنا أن الحضارة لا تُبنى بالآثار وحدها، فإن الحاضر يثبت أن الهوية أيضًا لا تعيش بالتراث وحده، بل بقدرتنا على تجديده، وحمايته، وتقديمه بلغة يفهمها الجيل الجديد دون أن تفقد مصر روحها التى صنعتها حضارة آلاف السنين.

الأب رفيق جريش الأب رفيق جريش
التعليقات