لم يُفاجأ أحد، لا فى المؤسسة الأمنية، ولا العسكرية، ولا حتى فى وسائل الإعلام الإسرائيلية، بالتقرير الذى نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، والذى أفاد بأنه من المحتمل أن يكون أكثر من 50 من المخطوفين فى قطاع غزة قد فارقوا الحياة. هؤلاء البشر الذين تُركوا لمصائرهم، يموتون، الواحد إثر الآخر، منذ تاريخ السابع من أكتوبر. وتتم التضحية بهم الآن من أجل الشعارات الفارغة التى يُطلقها ديوان رئيس الوزراء، من قبيل القتال حتى تحقيق «النصر الكامل»، من أجل إرضاء القاعدة الانتخابية اليمينية التى تقدس استمرار الحرب، وتضع الأمر فوق كل اعتبار، حتى لو تقلّبت بنا الدنيا ودارت علينا الدوائر، وكل هذا بهدف ضمان بقاء شخص واحد، وحكومة واحدة على كرسى الحكم.
حسم نتنياهو قراره بشأن أولوياته بخصوص المخطوفين من دون أن يعترف بالأمر علنا. إن التوصل إلى صفقة تبادُل بثمن باهظ (دعونا نعترف بأن مثل هذه الصفقة يجب أن يكون ثمنه باهظا ومؤلما)، سيؤدى إلى زعزعة ائتلافه الحكومى، ولعله يؤدى إلى حل الائتلاف. أمّا عدم التوصل إلى صفقة، فصحيح أنه قد يؤدى إلى انسحاب كلٍّ من جانتس وأيزنكوت، لكن الحكومة ستظل آمنة.
وصف مسئولون إسرائيليون ردّ «حماس» يوم الثلاثاء الماضى بأنه «سلبى جدا». لكن علينا الاعتراف بأن نتنياهو أيضا لم يبذل جهدا للدفع فى اتجاه التوصل إلى صفقة. ومن الصعب على المرء ألّا يتساءل عمّا إذا كان رد «حماس» العلنى، والذى ينطوى على نكاية، سيكون مختلفا لو كان هناك على الطرف الآخر رئيس حكومة إسرائيلى لا يستغل الأمور من أجل شنّ حملة علنية، ومحمومة، ومستندة إلى النكاية بصورة لا تقل عن نكاية «حماس»، حملة تهدف إلى التلميح لحركة «حماس» بأنه غير مستعد للتفاوض معها. ما الذى اعتقد نتنياهو أنه سيحدث بعد إطلاقه حملة ترسيم الخطوط الحمراء؟ بل ما الفائدة من هذه الحملة بالضبط؟ إنها لم تكن، لا فى مصلحة المخطوفين المساكين، ولا أفراد أسرهم الذين كادوا يصابون بالجنون، قلقا ويأسا. عواطف مَن تُدغدغ هذه الحملة إذا؟ إنها تهدف إلى دغدغة عواطف القاعدة الانتخابية لنتنياهو، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش.
ما لا يقوله نتنياهو، تقوله أبواقه فى القناة 14 [المعروفة بولائها لنتنياهو]. هؤلاء يقومون بترديد الرسائل التى تمرَّر إليهم من ديوان رئيس الحكومة، ومفادها بأن مسألة بقاء حكومة اليمين أهم من المخطوفين. ها هو نتنياهو، بانتهازيته المعهودة، يفعل كل ما فى وسعه من أجل إحباط أى فرص للتقدم إلى الأمام؛ إنه يفعل ذلك عبر نشر مقاطع الفيديو، المقطع تلو الآخر، التى تردد مقولات على غرار «لن نقوم بإطلاق سراح آلاف» الفلسطينيين و«لن نوقف القتال»؛ ويقوم نتنياهو بذلك، عبر إطلاق العنان للوزراء التابعين له، لبثّ الفوضى فى اجتماعات الحكومة، والتنازع على أمور لم تُطرح أصلا فى محادثات باريس. ويحدث ذلك عندما يقوم نتنياهو بزيارات ميدانية للقاء الجنود، لا لشىء، إلا لكى يبث فى صفوفهم رسالة حملته الإعلامية «النصر المطلق»، مرارا وتكرارا، ليستخدمهم لهذه الحملة، رغما عنهم، كما لو كانوا مجرد ديكور. ربما يتساءل الجنود فى سرّهم: لماذا لا يتحدث نتنياهو معهم، ولو بكلمة واحدة، عن أى أهداف أُخرى، على غرار استرجاع المخطوفين. لا بد من أن أمر المخطوفين يهمّ بعض هؤلاء الجنود.
لن يتحقق النصر المطلق، ولا الساحق، لو مات جميع المخطوفين، أو معظمهم، وعادوا إلينا فى توابيت. لن يتحقق النصر، إن لم تقُم «حماس» بإعادتهم، وسيظلون فى عداد المفقودين إلى الأبد.
كان يوم الثلاثاء الماضى أحد أصعب أيام الحرب الباردة الدائرة بين حزبَى «المعسكر الرسمى» و«الليكود». لقد تنازع كلٌّ من جانتس ونتنياهو على كل تفصيل، بما فيها تفصيل هذا الهجوم الأرعن، والمتوقع من نتنياهو، ضد قيادة المنطقة الوسطى التى أجرت مناورات لمحاكاة خطف طفل فلسطينى على يد مستوطنين، تحضيرا لاحتمالات نشوب مواجهة شاملة فى الضفة. بدا الأمر كما لو أن نتنياهو مستعد منذ الآن لانسحاب جانتس وأيزنكوت، والآن، هو يبذل كل جهده فى بناء البنية التحتية للتشهير بهما.
تساءل أعضاء الحكومة فيما بينهم يوم الثلاثاء الماضى، عن أثر الخبر المنشور فى الصحيفة الأمريكية، الذى أوردناه أعلاه، والذى أقرّت به جهات إسرائيلية (بصورة غير رسمية). هل ستصعّد عائلات المخطوفين ضغطها وتتحول فى اتجاه نشاطات أكثر تطرفا؟ إن شعار «الوقت ينفد» الذى ترفعه عائلات المخطوفين، أصبح له معنى آخر اليوم. من ناحية أُخرى، فإن التوجه الآخر، الداعى إلى القتال، والذى يسود أوساط اليمين، والداعى إلى الحسم، والاجتثاث، والتقويض، و«قطع رءوس» زعماء «حماس»، قد يتغلب على أصوات عائلات الأسرى.
لقد أعلن رئيس الحكومة فى اجتماع كتلة «الليكود»، أن تحقيق هذا الهدف سيستمر شهورا، لا سنوات. لا يوجد لدى الرجل أى أسس يبنى عليها هذا الافتراض. لكن طرحه هذا الشعار يخدمه سياسيا، وهذه هى حال كل ما يقوله نتنياهو، أو يفعله، فكل شىء مكرّس من أجل خدمة مصالحه السياسية الضيقة.
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية