فى وقت أبكر مما هو متوقع عادت روسيا إلى الشرق الأوسط لتملأ الفراغ الذى تركته وراءها الولايات المتحدة. إن كل من اعتقد أن روسيا خسرت موقعها كقوة عظمى عالمية بسبب العقوبات الاقتصادية المؤلمة التى فرضتها عليها الولايات المتحدة وأوروبا، وأن مغامرات الكرملين فى أوكرانيا ستفرض قيودا على قدرته على المناورة فى العالم، أثبت له بوتين أنه ما تزال له سيطرة عالمية وأنه لم يفقد شيئا من قوته. فالروس فى السعودية ومصر يوقعون صفقات سلاح بعشرات المليارات من الدولارات، وأيضا فى إيران، وها هم الآن يعودون إلى سوريا التى كانت طيلة سنوات عديدة معقلهم الأساسى فى الشرق الأوسط.
لم يتخل الروس مطلقا عن بشار الأسد وظلوا فى أيامه الصعبة يمدونه بالسلاح وبمساعدة مالية سخية. لكن تدخلا مباشرا من هذا النوع وإرسال مقاتلين وطيارين روس يشكلان من دون أدنى شك تصعيدا دراماتيكيا ومفاجئا. ويدل هذا التدخل قبل كل شىء على الثقة بالنفس والإحساس بالقوة اللذين من دونهما ما كان بوتين ليجرؤ على زيادة حجم الرهان الروسى فى سوريا. وحده الزعيم الواثق بنفسه يأمر بالتدخل فى منطقة شديدة الإشكالية والتعقيد، مظهرا استخفافه العلنى بالأمريكيين.
هل يعتقد بوتين حقا أنه قادر على إنقاذ الأسد؟ ليس هذا هو السؤال المطروح بالنسبة إليه. فتدخله الحالى فى سوريا يعيده من جديد إلى المنصة الدولية كلاعب أساسى لا يمكن الاستغناء عنه، وسينعكس ذلك على موقف روسيا وتحركها فى ساحات أخرى مثل أوروبا أو الشرق الأقصى.
***
هكذا، حتى لو سقط الأسد، فإن الوجود الروسى فى سوريا سيستمر لأنه يتمركز على الشاطئ العلوى الذى يشكل جيبا من السهل الدفاع عنه، وإليه ستنسحب بقايا النظام من أجل خوض معركة التصدّى الأخيرة فى منطقة أغلبية سكانها من الطائفة العلوية. وبالنسبة إلى روسيا فإن وجودها هناك استثمار على المدى البعيد. ويجب أن نعترف بأن سوريا بالنسبة إلى بوتين خط دفاع متقدم فى وجه تمدد الراديكالية الإسلامية، التى ستصل إلى حدود روسيا إذا لم تُلجم. وفى مقابل فشل التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة فى كبح «داعش»، يريد الروس تقديم بديلهم، وما ارتدعت الولايات المتحدة عن القيام به هم مستعدون لفعله، أى إرسال جنود وطيارين إلى أراضٍ سورية. وربما سيكون الأمريكيون ذات يوم مدينين للروس، وهذا ما تأخذه فى حساباتها واشنطن وموسكو.
والمؤسف أكثر من أى شىء آخر هو أن زيادة التدخل الروسى فى سوريا دليل على إفلاس الولايات المتحدة وعجزها فى الشرق الأوسط. وببساطة، لا تقيم روسيا وزنا لواشنطن وهى بالتأكيد لا تصغى إلى التحذيرات الضعيفة الصادرة عن الأمريكيين من مغبة التدخل الفظ فى الحرب فى سوريا، ولا لاحتمال نشوب مواجهة بين الروس وحلفاء محليين للأمريكيين بين الثوار، أو مع طائرات أمريكية تنشط [فى سماء] سوريا.
• ما هى دلالة ذلك بالنسبة لإسرائيل؟ على عكس السبعينيات، فإن روسيا ليست عدوة لإسرائيل، وتدخلها فى سوريا لا يهدف إلى مساعدة الأسد ومستقبلا مساعدة إيران وحزب الله فى محاربة إسرائيل. ليس هناك مشكلة بين الروس وإسرائيل، لكنهم فى الوقت عينه لا يهمهم ما إذا كان السلاح المتطور الذى يبيعونه مقابل الكثير من الدولارات لإيران وسوريا، يضر بإسرائيل. ومما لا شك فيه أن تدخلا روسيا نشطا فى سوريا سيفرض قيودا على قدرة تحرك إسرائيل التى درجت منذ وقت على مهاجمة أهداف فى سوريا كل مرة شكّت فيها فى أن السوريين ينقلون سلاحا متطورا إلى حزب الله.
قد لا ينقذ الروس بشار، لكنهم يحولون سوريا إلى معقل روسى مهم وجزء من صراعهم الدولى سواء ضد الجهاد العالمى أو فى المواجهة المتجددة بينهم وبين الولايات المتحدة. ومن الأفضل لإسرائيل أن تراقب هذا الصراع من الخارج، وخصوصا بالتأكيد أن الولايات المتحدة نفسها تنتهج سياسة امتناع عن الفعل حيال الأزمة السورية.