سنبدأ بالأخبار الجيدة: بعد مرور شهر على موجة «الإرهاب» التى شهدنا خلالها أربع هجمات قاتلة أدت إلى مقتل 14 إسرائيليا (أكثر من عدد القتلى الإسرائيليين جراء سقوط 4360 صاروخاَ على إسرائيل فى عملية حارس الأسوار)، فإن قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية لم تنضم إلى حلقة «الإرهاب»، والفلسطينيون هناك يفضلون الهدوء. هل هناك أعمال شغب؟ هل ثمة مواجهات عنيفة يشارك فيها كثيرون؟ أو تظاهرات ضخمة؟ فعلا لا. الفلسطينيون لا يشاركون. حتى لو أن هذه الهجمات تثير فرح كثيرين فى المناطق، إلاّ إنهم يبتهجون فى منازلهم لمدة 24 ساعة ثم يعودون إلى عملهم فى إسرائيل «كأن شيئا لم يكن»، وفقا لما قاله أحد سكان المناطق.
والآن حان وقت الأخبار السيئة: بعكس الماضى، لم يكن ثمة حاجة إلى شبكة «إرهابية» منظمة لبث جو من الخوف الحقيقى، وكى يأخذ النزاع هذا المسار الخطر؛ فمصانع المتفجرات التابعة لـ«حماس» فى نابلس متوقفة عن العمل منذ أعوام، ومَنْ يحاول رفع رأسه من مهندسى الجهاد الإسلامى فى الخليل، أو من المنظومة الواسعة التابعة لكتائب الأقصى فى مخيمات اللاجئين، يُلقى القبض عليه فورا بفضل قدرة الاحتواء للشاباك فى المناطق. لكن يبدو أن لا حاجة إلى هذا كله لتحقيق ما يسعى «الإرهاب» له، وهو بث الخوف وسط جمهور الخصم ومتخذى القرارات منهم.
صحيح أنه حتى اليوم لا وجود لآلاف المتطوعين الفلسطينيين على لائحة الانتظار لتنفيذ هجمات انتحارية (كما فى ذروة الانتفاضة الثانية)، وثمة شك حتى فى وجود العشرات، لكن هناك أفرادا مزودين بالسلاح (من السهل العثور عليهم فى المناطق) يصرون على الدخول إلى إسرائيل (حاليا من السهل القيام بذلك عبر الفجوات فى الجدار)، ويمكن أن يخلقوا شعورا مشابها، وأن تتسبب رصاصاتهم بتصعيد كبير.
وهناك أخبار سيئة أكثر: السلطة الفلسطينية فقدت سيطرتها وسيادتها على شمال الضفة، وخصوصا فى مخيم جنين، فلا يستطيع عناصرها الدخول إلى المخيم وفرض إرادتهم وسيطرتهم. كما أن الذين يدخلون إلى المناطق الخطرة، ويتحدثون عن فكرة مواجهة عنيفة مع إسرائيل ليسوا الأشد تطرفا، أى أنصار الجهاد الإسلامى من الضواحى البعيدة فى شمال الضفة، بل هذه المرة هم عناصر من حركة «فتح»، أى من لحم ودم السلطة الفلسطينية، الشريكة الكبرى لإسرائيل فى كل ما له علاقة بإحباط «الإرهاب». هناك عناصر من «فتح»، وبالتحديد فى منطقة جنين، أصبحوا فى السنوات الأخيرة راديكاليين، ولا تترك تصريحاتهم مجالا للشك فى موقفهم من النزاع. وبالتالى نشأ هذا الوضع الراهن، إذ نفذ شخص يتماهى مع حركة «فتح» هجوما قاسيا، ولاقى تأييدا من عناصر فى الحركة فى منطقة جنين، ومنفذ الهجوم هو ابن ضابط رفيع المستوى فى الأمن الوطنى (برتبة عميد). وفى جميع الأحوال هو من النواة الصلبة فى أجهزة الأمن الفلسطينية، وبذلك نشأت منطقة رمادية التقى فيها «الإرهاب» بالسلطة الفلسطينية القائمة.
وتعكس الصور التى وردت من مخيم جنين هذه الرواية المعقدة: مسئولون كبار فى السلطة، بعضهم برتب عسكرية، قدموا التعازى لرفيقهم من «فتح»، الذى هو شخص رفيع المستوى فى الأجهزة، بشأن مقتل ابنه فى هجوم فى إسرائيل. فى وضع كهذا تختفى الخطوط ويلتقى عالمان متناقضان ظاهريا.
لا نستطيع أن نقول شيئا عن الإدانة العلنية للهجوم من جانب مسئولين رفيعى المستوى فى السلطة، فالوحيد الذى فعل ذلك، وعلى رءوس الأشهاد، هو الرئيس أبو مازن، وما دام فى منصبه فإن خيار السلطة واضح، وهو محاربة «الإرهاب» بلا هوادة. فهذه هى عقيدة الرجل الذى حرصت إسرائيل طوال أعوام على تحجيمه وتجاهله وإضعافه وجعله غير ذى قيمة. لكن ماذا سيجرى عندما يختفى فعلا عن الساحة؟ فى ذلك اليوم لا شيء سيكون بديهيا، إذ سيكون علينا إعادة النظر فى نظريتنا وفرضيات عملنا وبلورتها من جديد. ماذا سيكون موقف «فتح» من إسرائيل؟ وكيف ستتصرف كل منطقة؟ وماذا بشأن العسكريين الفلسطينيين؟ كل عامل من هذه العوامل سيحتاج إلى إعادة تقييم لمعرفة موقفه من المسألة التى كانت وستبقى الأكثر سخونة فى المناطق، أى إسرائيل.