الشعب المصرى كله يشعر بأزمة المواصلات، لا أحد يمكنه أن ينكر تراجع مستوى خدمات النقل العام وتكدس وسائل المواصلات وعدم انتظام مواعيد تحركها ووصولها، فضلا عن تعرضها بنِسَب متفاوتة لمستويات مرتفعة من المخاطر يستشعرها السائح والزائر أكثر من أهل البلد.
أخيرا أطلت أزمة المواصلات برأسها على مشاهد مختلفة من المجتمع المصرى، وفرضت نفسها على نقاشات البرلمان، وأحاديث المنتديات الإلكترونية والمقاهى، وإن تباينت تجليات الأزمة وتعددت مظاهرها.
ففى البرلمان احتدم الجدل حول تقنين أوضاع مشغلى خدمات النقل الخاص عبر وسائط الاقتصاد التشاركى المعروفة إعلاميا بأزمة أوبر وكريم، وذلك على خلفية صدور أحكام قضائية متلاحقة، فى دعاوى أقامها سائقو التاكسى الأبيض أمام القضاء الإدارى، صبت فى النهاية فى مصلحة الشركتين بأن سارعت الحكومة لتقنين وضعيهما كما سبق أن أشرت فى مقال قد سلف. وما لبث أن صدر قرار المجلس المقنن للنشاط والممهل الشركتين فترة لتوفيق الأوضاع. وفى منتديات التواصل الاجتماعى اشتعل الجدل والخلاف حول قرار رفع قيمة تذكرة مترو الأنفاق وتقسيمها إلى فئات، علما بأن هذا المترو يعد إحدى وسائل النقل العام النادرة التى مازالت تحفظ للراكب شيئا من كرامته واطمئنانه. الخيارات تضيق إذن أمام المواطن المصرى للبحث عن بدائل لوسائل نقل عام بين سيارات الأجرة التى ينقصها الانضباط والرقابة سواء كانت سيارات الميكروباص أو الأجرة التقليدية أو التاكسى الأبيض، مما حدا به إلى البحث عن بديل جديد لتلك السيارات فى خدمات تشاركية مثل أوبر وكريم.
الخلاصة أن المواطن المتوسط والبسيط حائر فى تدبير وسيلة نقل آمنة منتظمة واقتصادية للتنقل بين عمله ومحلى دراسته وإقامته. وإذ يقع على الدولة عبء تدبير تلك الوسيلة وبدائلها المختلفة، فإن ارتفاع أسعار الخدمات والضرائب المقررة عليها يعد مدخلا واحدا من مداخل تحسين مستوى الخدمة المقدمة، ووسيلة من وسائل عدة لمعالجة الخلل القائم بين التكلفة والعائد والذى تطالب به باستمرار وإلحاح بعثة صندوق النقد الدولى. وإذ يعترى هياكل التكلفة بمختلف مرافق الدولة كثير من العوار، نتيجة لتراكم عقود من الفساد وتراجع مستويات الكفاءة، فإن معالجة الخلل بين العائد والتكلفة بالنظر فى جانب العائد فقط لن يكون مجديا، خاصة أن أى زيادة فى الإيرادات نتيجة لرفع أسعار الخدمة أو السلعة سوف تلتهم حتما بفعل العطب المؤسسى والإدارى، وغياب أنظمة التكاليف المنضبطة.
***
أزمة المواصلات فى مصر خاصة فى إقليم القاهرة الكبرى هى أزمة تاريخية هيكلية، يحتاج علاجها إلى أكثر من تدبير الموارد المالية، وأعمق من مراجعة أسعار الخدمات. يحتاج إلى رؤية شاملة واستراتيجية واضحة لتحسين بدائل النقل والمواصلات. ولأن البعض من متابعى صفحات الرأى يحسب أن المقال ما تصدى صاحبه إلى موضوع إلا وقد ألزم نفسه بتقديم الرؤى والحلول، والفتيا بعلم وبغير علم! فقد وجدت من المناسب أن أؤكد فى مفتتح هذا النص أنه ليس دراسة ولا ورقة سياسات أو دعم قرار، أو شيئا مما يكبر فى صدور النقاد. والحق أن المقال قد يتضمن تشخيصا للوضع أو قراءة فى مسألة أو تحليلا لظاهرة أو مجرد رصد لها.. وقد يتبنى رأيا غير مختص أو أثارة من القول أو تجربة شخصية أو لمحة من وقع أثر حادث على النفس.. أو مزيجا من هذا وذاك. وفى مقالى اليوم أجدنى صاحب تجربة واختصاص دراسى فى علم الاقتصاد، ومهنى فى صناعات معدنية منها سيارات الركوب والصناعات المغذية للمركبات. هذا يضعنى فى مقام المتأمل لبعض الحلول التى يمكن أن تلتئم بها رؤيتنا الشاملة سالفة الإشارة.
فى ندوة أقامتها مؤسسة أهلية ترعى قضية سلامة الطرق كنت ومازلت أقدم استشارات اقتصادية مجانية لها، كان أحد المتحدثين مسئولا بارزا فى الإدارة العامة للمرور، وقد أفصح حينها عن وضع مرتبك لسلامة الطرق والتى تحملنا على قبول مشروع الميكروباص بكل ما فيه من عشوائية ومخاطر تعترض سلامة الركاب، فقط كونه أصبح الوسيلة الأهم بين وسائل نقل الأفراد، والأكثر استحواذا على عدد الركاب من مختلف الفئات. الحق أقول لا أملك رفاهية الاختلاف مع رؤية ذلك المسئول، لكننى أملك بين يدى تصورا لتحويل هذا الخطر إلى فرصة يمكن انتهازها. عشوائية الميكروباص وسلوكيات سائقيه ليست نتاجا لغياب الرقابة وانخفاض قبضة القانون وحسب، بل هى نتيجة طبيعية لغياب المنافسة الجادة والتنظيم المؤسسى، الذى يوفر قدرا معقولا من الانضباط والرقابة الذاتية.. دليلنا على ذلك التحسن الملحوظ الذى شهد به الكثيرون والذى طرأ على خدمة التاكسى الأبيض والتاكسى التقليدى بعدما اقتحم السوق شركات متخصصة منضبطة ومؤسسية مثل أوبر وكريم. هنا يأتى دور بعض شركات قطاع الأعمال العام العاملة فى مجال النقل، والتى يمكنها أن توفر بديلا مؤسسيا معتبرا للعمل كمشغل لمشروع الميكروباص التشاركى، ويتكامل مع هذا الدور نشاط لشركات أخرى فى ذات القطاع، يمكنها أن تعمل فى مجال تكهين وتطوير أسطول سيارات الميكروباص. الذى تغص به شوارع المدن الكبرى فى مصر، بغرض تأهيلها للانضمام إلى المشروع، وذلك طبعا بغية تحسين الخدمة المقدمة للمواطن، وخفض مستوى العشوائية فى مشروع منضبط مقنن، وفى ظل حقيقة إحصائية يصل معها استخدام الهاتف المحمول فى المدن الكبرى إلى مائة فى المائة، ومن ثم سهولة التوسع فى استخدام تطبيقات النقل والمواصلات. هذا فضلا عن وفورات عدة للمشروع يمكنها أن تساعد فى تنمية الصناعات المغذية لسيارات الركوب.
***
التنمية الاقتصادية تتوقف بشكل كبير على تطوير البنية الأساسية، وفى مقدمتها بنية النقل والمواصلات، كأحد أعمدة رأس المال المادى والذى يشكل تحسينه كما وكيفا سويا مع تحسين رأس المال البشرى دعامة الارتقاء برفاهية المجتمع.
على المستوى الكلى للاقتصاد تساهم وسائل النقل بنسبة تتراوح بين ٦٪ و ١٢٪ من الناتج المحلى الإجمالى لعدد من الدول المتقدمة. وعلى المستوى الجزئى تساهم وسائل النقل المتطورة فى خفض جميع التكاليف، وتساهم بنحو ١٠٪ إلى ١٥٪ من إنفاق القطاع العائلى، ونحو ٤٪ من تكاليف وحدات الإنتاج الصناعى. المزايا والوفورات الاقتصادية لوسائل النقل وشبكاته وبنيته الأساسية متى تمتعت بالكفاءة كثيرة ومتشعبة، أحصاها الباحثان الدكتور چان بول رودريج والدكتور ثيو نوتيبوم فى ورقة منشورة على الإنترنت، تحت عنوان «جغرافيا أنظمة النقل» أدعو القارئ إلى مطالعتها. لا يجوز إذن أن نتحدث عن تنمية اقتصادية شاملة فى منأى عن تحسين وسائل النقل، ولا يمكن أن يتم التحسين بمعزل عن تقدير التكاليف التى يتحملها المواطن وتلك التى تتحملها الدولة، والتى سوف تظل تلتهم أى زيادة فى الإيرادات ناتجة عن تحريك الأسعار، وسوف نصبح فى حالة من الترقب الدائم لمراجعة دورية للأسعار، كحل وحيد بائس لمواجهة تشوهات التكاليف، وعجز البعض عن رفع كفاءة التشغيل، وتنويع مصادر الإيرادات، عن طريق بيع منتجات فرعية وإقامة استثمارات تكون بمثابة أداة تحوط لمقدمى الخدمة ضد تقلبات الأسعار والتكاليف.
أزمة المواصلات وبصورة أشمل أزمة النقل تحتاج إلى حوار مجتمعى جاد، يتأكد خلاله حرص مختلف الأطراف على تحقيق مصلحة واحدة هى تنمية البلاد ورفاهية العباد.
بقى أن أشيد فى ختام المقال بالاستجابة السريعة للدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم والذى ما إن جف مداد مقال الأسبوع الماضى حتى استجاب بكل تواضع لما جاء فيه من توصية ورجاء، بمراعاة الأبعاد المختلفة لمسألة إلغاء تدريس بعض المواد باللغة الانجليزية فى المدارس التجريبية والبدء بتطبيق رؤى التطوير بصورة تدريجية بالاستفادة من تعدد أنظمة التعليم فى مصر، هذا أبلغ رد على الأصدقاء المتابعين الذين وجهوا إلى العتاب لحسن ظنى بالرجل وبقدرته على إدارة منظومة التعليم وتحديثها.