يعد السلام بمفهومه الشامل استثمارًا استراتيجيًا طويل الأجل له عوائد متراكمة، لا مجرد تسوية مؤقتة لوقف القتال. فتكلفة الحرب، مهما كانت ذرائعها، باهظة وغير قابلة للاسترداد، بينما يفتح السلام أبوابًا واسعة للنمو والاستثمار والتجارة لا تُفتح إلا فى مناخ مستقر. ومع اقتراب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والتسوية الشاملة فى غزة، تواجه المنطقة تحدى تحويل «عائد السلام» من فكرة مجرّدة إلى واقع اقتصادى ملموس.
تشير تقديرات معهد الاقتصاد والسلام إلى أن تكلفة العنف فى عام ٢٠٢٣ بلغت نحو ١٧,٥ تريليون دولار، أى ما يعادل 16٪ من الناتج العالمى آنذاك. كما توضح دراسات اقتصادية حديثة – من بينها دراسة منشورة بجامعة جنوب فلوريدا حول «التحليل الاقتصادى للصراعات والسلام فى إفريقيا» – أن النزاعات المسلحة تُفقد الاقتصادات النامية ما يقارب ٢,٥٪ من ناتجها المحلى سنويًا، بينما تتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر بنحو ٤٠٪ أثناء فترات الحرب، فى حين ترتفع معدلات النمو بثلاث إلى أربع نقاط مئوية خلال خمس سنوات فقط من استقرار السلام.
فى دراسة رائدة للاقتصادى البريطانى «بول كولير» بعنوان «الحرب والإنفاق العسكرى فى الدول النامية»، نشرتها مجلة الاقتصاد والسلام والأمن، يقدّم المؤلف تحليلًا كمّيًا دقيقًا للعلاقة بين التوسع فى الإنفاق العسكرى وتراجع الأداء الاقتصادى فى دول الجنوب. فقد خلص إلى أن مضاعفة الإنفاق العسكرى تُفضى، فى المتوسط، إلى انخفاض مستوى الدخل فى الدول النامية بنحو ٢٠٪ على المدى الطويل، كما تُضعف قدرة هذه الدول على جذب الاستثمارات وتحقيق النمو المستدام. وأظهرت دراسته، التى استندت إلى بيانات تمتد لعقود من النزاعات الأهلية، أن كل حرب داخلية تُقلّص معدل النمو السنوى بما يقارب نقطتين مئويتين، وأن نصف الدول العابرة بالصراعات تعود إليها خلال خمس سنوات فقط، ما لم تُدعّم السلام بسياسات تنموية عادلة وشاملة. وانتهى «كولير» إلى أن الأمن الحقيقى لا يتحقق بتضخم الموازنات العسكرية أو سباق التسلح، بل بالاستثمار فى التعليم والبنية الأساسية وخلق الفرص، مؤكدًا أن التنمية (وليس الردع) هى الطريق الأنجع لبناء مجتمعات مستقرة وآمنة.
تضع هذه الحقائق العالم العربى أمام معادلة واضحة؛ فكل عام من الحرب يُهدر جزءًا من الناتج وفرص العمل يعجز عن تعويضه أى برنامج دعم أو قرض دولى، بينما يتيح عام واحد من السلام فرص نمو حقيقية قد تفوق فى عائدها ما تحققه استثمارات كبرى فى البنية التحتية أو الطاقة.
لم تقتصر تداعيات الحرب على الجانب الإنسانى والسياسى، بل امتدت آثارها إلى شرايين الاقتصاد المصرى الحيوية، وفى مقدمتها قناة السويس التى تُعد أحد أهم مصادر النقد الأجنبى للبلاد. فقد أدت الهجمات المتكررة فى البحر الأحمر خلال الأشهر الأولى من عام ٢٠٢٤ إلى تحويل مسار جزء كبير من حركة السفن بعيدًا عن المجرى الملاحى، ما تسبب فى تراجع الإيرادات بنحو ٦٠٪ مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، بحسب بيانات هيئة القناة وتقارير بلومبرج الشرق. وانخفضت العوائد الشهرية إلى نحو ٤٥٠ مليون دولار بعد أن كانت تتجاوز ٨٠٠ مليون دولار فى نهاية عام ٢٠٢٣، وهو تراجع مؤقت لكنه كاشف لحجم الخسائر التى يمكن أن تتكبدها الدولة جراء أى اضطراب إقليمى فى الممرات الملاحية الدولية. ومع كل هدنة أو تهدئة أمنية تعود معدلات العبور إلى الارتفاع، ما يؤكد أن السلام ليس شعارًا سياسيًا، بل أداة مباشرة لتعزيز موارد الدولة وتحسين ميزان المدفوعات.
يمتد أثر الحرب كذلك إلى قطاع السياحة، أحد أعمدة الدخل القومى وأحد أهم روافد التشغيل وخلق فرص العمل والإيراد الدولارى. فقبل اندلاع الحرب كانت مصر على مشارف تحقيق هدف طموح باستقبال ١٨ مليون سائح خلال عام ٢٠٢٤، وفقًا لتصريحات وزير السياحة والآثار. غير أن الحرب فى غزة وما صاحبها من توتر فى الإقليم حالت دون تحقيق هذا الهدف، فتراجعت وتيرة الحجوزات الأوروبية والروسية وأُرجئت خطط التوسع الفندقى التى كانت تستهدف إضافة عشرات الآلاف من الغرف الجديدة. وتشير بيانات الوزارة إلى أن البلاد استقبلت نحو ١٤,٩ مليون سائح العام الماضى، وكان يمكن لهذا الرقم أن يرتفع بنحو ٢٠٪ لولا تداعيات الصراع على صورة المنطقة وحركة النقل الجوى.
هذه الفرص المهدرة تُظهر كيف أن استمرار النزاع لا يحرم مصر من إيرادات آنية فحسب، بل يبدد فرصًا استثمارية وسياحية تراكمية كانت كفيلة بإحداث نقلة نوعية فى تدفقات النقد الأجنبى والتشغيل المحلى. أما استقرار الأوضاع الإقليمية فيفتح المجال أمام انتعاش سريع لهذه القطاعات، فكلما عمّ السلام فى محيط مصر، تدفقت التجارة والسياحة والاستثمار نحوها بوتيرة أسرع مما يمكن أن تحققه أى حزمة تحفيزية داخلية.
الاستثمار الأجنبى بدوره يتدفق فى القنوات التى يفتحها السلام، وتنخفض مخاطره وتكاليفه كثيرًا مع الاستقرار. فالتقارير الصادرة عن مؤسسات مالية دولية مثل «جولدمان ساكس» و«دويتشه بنك» تشير إلى أن تحسّن البيئة الإقليمية قد يرفع تدفقات الاستثمار المباشر إلى مصر من نحو تسعة مليارات دولار فى ٢٠٢٤ إلى ما بين ١٣ و١٤ مليارًا فى ٢٠٢٦، إذا استمرت الإصلاحات وتراجعت المخاطر الجيوسياسية. ويواكب ذلك انخفاض فى كلفة الاقتراض الخارجى بما يتراوح بين ١٥٠ و٢٠٠ نقطة أساس، وهو ما يوفر للحكومة وفورات بمليارات الدولارات فى خدمة الدين يمكن توجيهها إلى التعليم الفنى والبنية التحتية الإنتاجية.
أما خفض الإنفاق العسكرى، فهو أحد أبرز مكاسب السلام وأكثرها مباشرة واستدامة. فبعض الدول العربية تُنفق—حسب تقارير بحثية لمنطقة الشرق الأوسط—نسبًا ملحوظة من الناتج المحلى على الدفاع، قد تتجاوز أحيانًا 5٪، وهو أعلى من المتوسط العالمى فى فترات عديدة. تُشير الدراسات الأكاديمية إلى أن خفض هذا الإنفاق—خاصة فى الدول التى خرجت من النزاع—يفسح مجالات لتوجيه موارد إضافية للتعليم والبنية التحتية، وتحفيز الإنتاج، وتحسين الخدمات العامة. كما أثبتت بحوث كولير أن الإنفاق العسكرى المفرط لا يُحوّل دائمًا دون المخاطر، بل يمكن أن يُعزز ما يُعرف بـ «فخ الصراع»؛ حيث يؤدى ضعف التنمية إلى زيادة احتمالات النزاع، والنزاع بدوره إلى مزيد من التدهور الاقتصادى.
تؤكد تجارب إفريقيا وآسيا وأوروبا هذه الحقيقة، فمنذ توقيع موزمبيق اتفاق السلام عام 1992 بعد حرب أهلية استمرت 16 عامًا، قفز معدل نموها الاقتصادى من نحو 1٪ فى مطلع التسعينيات إلى متوسط يقارب 7–8٪ خلال العقد اللاحق، وفق بيانات البنك الدولى. وفى أوروبا، أطلقت اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998 فى إيرلندا الشمالية مرحلة ازدهار اقتصادى ملحوظة، إذ تضاعف الاستثمار الأجنبى وارتفع الناتج المحلى للفرد بأكثر من 35٪ خلال عقد واحد. أما فيتنام، فبعد إنهاء الحرب وتطبيق إصلاحات «دوى موى»، تحولت إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا فى آسيا بمتوسط تجاوز 7٪ سنويًا لأكثر من عقدين. وتجمع هذه النماذج على أن خفض التوتر العسكرى وإطلاق الاستثمار يصنعان مناخًا قادرًا على إعادة بناء رأس المال المادى والبشرى فى آنٍ واحد.
تظهر التجارب التاريخية أن عائد السلام لا يتحقق تلقائيًا، بل يحتاج إلى إدارة اقتصادية واعية تُحسن توجيه مكاسب الاستقرار نحو التنمية. وعلى مصر أن تغتنم اللحظة الراهنة لتحويل استقرار غزة من حدث سياسى إلى مشروع اقتصادى متكامل، يربط بين الأمن القومى والرخاء الاجتماعى. ففرصة كهذه لا تتكرر كثيرًا فى الجغرافيا المضطربة للمنطقة، وينبغى تحويلها إلى خطة عمل وطنية تعيد الثقة للمستثمرين، وتُنشط قطاعات التشغيل والإنتاج.
فعلى المدى القصير، يمكن لمصر أن تركز على إعادة تنشيط السياحة عبر حملات ترويجية، وتحفيز الاستثمار الصناعى والتكنولوجى من خلال حوافز محددة زمنيًا، مع إطلاق برامج لتأهيل العمالة فى القطاعات التصديرية القادرة على توليد عملة صعبة سريعة. أما على المدى المتوسط، فينبغى توظيف الوفورات المالية الناتجة عن تراجع الإنفاق الدفاعى وتحسن الإيرادات الدولارية لإنشاء صناديق تمويل للتعليم الفنى والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، بما يرسخ قاعدة إنتاجية قادرة على تحقيق النمو وامتصاص البطالة.
فالسلام، فى جوهره، ليس مجرد هدنة بين حربين، بل منعطفا لإعادة بناء النظام الاقتصادى على أسس أكثر عقلانية وعدلًا. إن وقف الحرب فى غزة وتراجع الهجمات على الممرات البحرية يمنح مصر والعرب فرصة نادرة لإطلاق اقتصاد يتسع للناس لا للجيوش، ويقيس القوة بما يُنتج لا بما يُنفق. وقد أثبتت الدراسات الأكاديمية، من إفريقيا إلى أكسفورد، أن التنمية هى الضمان الحقيقى للأمن، وأن كل جنيه يُستثمر فى التعليم والبنية التحتية يُطيل عمر السلام أكثر مما تفعل أى اتفاقية سياسية.
إن المنطقة اليوم أمام لحظة فارقة فى تاريخها الحديث، يمكن أن تتحول فيها هدنة السلاح إلى انطلاقة تنموية حقيقية، إذا توافرت الإرادة والرؤية القادرة على تحويل «عائد السلام» إلى واقعٍ يلمسه المواطن قبل أن تُسجله الأرقام فى دفاتر الاقتصاد.