قال مناحيم بيغن: "مصاعب السلام أفضل من معاناة الحرب". بهذا المعنى، فإن قمة دونالد ترامب وكيم جونغ أون، التي عُقدت صباح الثلاثاء في سنغافورة هي خبر سعيد للإنسانية. الزعيمان اللذان، حتى وقت قريب، هددا بعضهما بعضاً بمحرقة نووية، عقدا لقاء ودياً، ووعدا بتحسين العلاقات بينهما، وتعهدا بالسعي نحو السلام. في العالم، حيث الصورة أهم من المضمون في بعض الأحيان، فإن ما جرى إنجاز كبير سيُعتبر في يوم من الأيام تاريخياً.
بيْد أن الرغبة الطبيعية في حل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية، والاعتراف بأن أهمية الاجتماع، أحياناً، هي في جوهر حدوثه - كي لا نتحدث عن ميل وسائل الإعلام إلى تضخيم الأحداث وإعطائها أحجاماً غير واقعية - كل ذلك لا يستطيع طمس حقيقة أن المنتصر الأكبر في سنغافورة لم يكن رئيس أقوى دولة ديمقراطية في الكرة الأرضية، بل هو ديكتاتور مجرم من إحدى الدول الظلامية في العالم.
لقد حظي كيم بشرعية واحترام ومجاملات وعناق رئيس الولايات المتحدة من دون أن يتنازل عن شيء. لقد أغدق ترامب عليه الثناء ووصفه بالزعيم الرصين المسؤول والكفء. وفي مقابلة مع شبكة ABC أدّعى ترامب أنه من الواضح أن شعب كيم "يحبه بحماسة كبيرة"، كما لو أن كوريا الشمالية دولة ديمقراطية ملؤها النشاط وليست دولة معسكرات اعتقال وقمع وجرائم سياسية.
في بيان المبادئ الذي وقّعه الزعيمان، قدم ترامب لكيم "ضمانات أمنية معناها قبول أميركي" بالنظام المريع. واستمر الرئيس الأميركي في إعطاء كيم هدايا مجانية أيضاً في المؤتمر الصحافي الطويل الذي عُقد في ختام المحادثات. ومن دون أن يستشير البنتاغون وحليفه في سيول، أعلن ترامب وقف التمارين العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، وحتى وصفها "بالاستفزازية"، وفقاً للغة المعهودة الدعائية في بيونغ يانغ. وأضاف أنه ينوي في النهاية إخراج القوات الأميركية من كوريا الجنوبية، وهو هدف سعى له جميع زعماء كوريا الشمالية منذ انتهاء الحرب الكورية قبل 65 عاماً.
ترامب وكيم قدّما عرضاً جيداً لوسائل الإعلام، لكن من الناحية العملية تمخض الجبل فولد فأراً. ومع ضخامة العرض فإن إنجازاته الجوهرية ضئيلة. وعلى الرغم من محاولات ترامب تجميل صيغة البيان المشترك الذي وقّعه مع كيم وترميمها، فالبيان وثيقة هوائية وعامة، كان من الأفضل لو لم يوقعها ترامب. منذ سنة 1992 توافق كوريا الشمالية على "تجريد شبه الجزيرة الكورية" من السلاح النووي، كما يظهر في الصيغة التي وقع عليها اليوم.
لكن في إطار الاتفاقات التي وُقعت مع كوريا الشمالية في سنة 1994، وفي البيان المشترك للدول الست التي أجرت مفاوضات لتجريد بيونغ يانغ من سلاحها النووي في سنة 2005، وفي بيان آخر للدول الست يعود إلى سنة 2007، ألزمت كوريا الشمالية نفسها بتعهدات بعيدة المدى أكبر من تلك التي نجح ترامب في الحصول عليها من كيم. وحده الزعيم الذي يعتقد أن العالم وُلد من جديد عندما أدى اليمين الدستوري يمكن أن يدّعي بجدية أن ما حدث هو إنجاز جوهري، وليس إنجازاً رمزياً فقط.
علاوة على ذلك، يمتاز البيان بما لم يتضمنه أكثر بما تضمنه. بخلاف التعهدات التي أخذتها بيونغ يانغ على نفسها في الماضي، لم يتضمن البيان كلمة تتعلق باستعداد كوريا الشمالية للانضمام مجدداً إلى اتفاقية منع انتشار السلاح النووي، كما لم يتضمن كلمة واحدة عن وسائل للتأكد من تنفيذ كوريا الشمالية وعودها الكلامية أو مراقبتها؛ كما لا توجد كلمة أيضاً بشأن وقف إنتاج البلوتونيوم أو جهود إنتاج قنبلة هيدروجينية.
في المؤتمر الصحفي أدّعى ترامب أن كيم قدّم وعوداً شفهية لتفكيك قواعد إنتاج محركات صواريخ. لكن لا توجد كلمة واحدة عن ذلك في البيان المشترك. هذا على الرغم من أن تطوير كوريا الشمالية قدرة صاروخية عابرة للقارات هو الذي دفع الولايات المتحدة إلى البحث عن حل سياسي للتهديد المتزايد الموجّه نحوها.
لقد تضمن البيان تعهداً بإعادة جثامين مفقودين أميركيين منذ فترة الحرب، لكنه لم يذكر مواطني اليابان وكوريا الجنوبية الذين خُطفوا على يد كوريا الشمالية. ولم يأت البيان على الإطلاق على ذكر هاتين الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة، المهدّدتين دائماً من جانب بيونغ يانغ. كما يتجاهل البيان تماماً خرق النظام في كوريا الشمالية حقوق الإنسان، وبالتأكيد لم يرِد فيه أي ذكر بأن كيم ينوي تحرير شعبه من القمع والحرمان. على العكس لقد حصل كيم من ترامب على توقيع يؤهله مواصلة أساليبه الاستبدادية.
نتائج قمة سنغافورة والمسافة التي تفصل بينها وبين التوقعات العالية التي ظهرت قبلها، لن تخفف الانتقادات التي وُجهت إلى سلوك ترامب خلال قمة G-20 بل ستزيدها تفاقماً. الفجوة بين غزل ترامب لطاغية بيونغ يانغ مقارنة بالإساءة التي ألحقها ترامب بجاستين ترودو الكندي، زعيم الدولة الحليفة الأكثر قرباً إلى الولايات المتحدة، أصبحت أكثر فجاجة وفظاظة. لم يتعلم ترامب درساً: ففي الوقت الذي كان يمدح فيه صديقه الجديد كيم، واصل توجيه الضربات إلى ترودو من سنغافورة وقال إنه: "سيدفع كثيراً من المال" بسبب مواقفه في موضوع رسوم الحماية الجمركية.
لقد أثبت ترامب مجدداً أن التصريحات الرنانة والمظهر الصارم لا يمكن أن يشكلا بديلاً مناسباً من التعمق في فهم الموضوع والاهتمام بالتفاصيل، التي تشكل حجر الأساس في أي عمل سياسي رصين. لقد تخلى عن إعداد الأرضية، وتنازل عن الأعمال التحضيرية وانتقل مباشرة إلى قمة تحظى بتغطية إعلامية. ترامب مثل إسرائيليين كثر، يعتقد أنه لا يوجد غيره. وهو يعتقد أنه وحده قادر على تربيع الدائرة وتحقيق الإنجازات التاريخية التي فاتت الذين سبقوه. عندما سيعود إلى الولايات المتحدة ويقرأ عناوين الصحف، سيشعر بخيبة أمل كبيرة. سيكتشف مرارة الواقع، وأن منتقديه يواصلون توجيه الضربات إليه من دون رحمة وبينهم أيضاً جزء مهم من المؤيدين له الذين يلتزمون الصمت من شدة الإحراج، باستثناء شبكة فوكس نيوز.
حيمي شاليف
محلل سياسي
هآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية