حول اللامركزية والفدراليّة في سوريا - سمير العيطة - بوابة الشروق
الأحد 14 سبتمبر 2025 8:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

حول اللامركزية والفدراليّة في سوريا

نشر فى : الأحد 14 سبتمبر 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الأحد 14 سبتمبر 2025 - 6:50 م

يكثر اللغط فى سوريا حول اللامركزية والفدراليّة للخروج، ليس فقط من تداعيات الحرب الأهلية التى عصفت بالبلاد أربعة عشر عاما، بل أيضا للخروج من الأحداث التى رافقت الأشهر الأولى التى تلت سقوط سلطة الأسد، والتى كانت سبب احتقانات غير مسبوقة.
والواقع أنّ سنوات الصراع فى سوريا قد شهدت تقسيما فعليا للبلاد وتطوّر تجارب سلطات محلية أدارت مناطق خلال سنين بشكل منفصل، وأوجدت تجاربها الخاصة. فهناك تجارب «الإدارة الذاتية» فى الشمال الشرقى، وتجربة «حكومة الإنقاذ» فى الشمال الغربى، وأقلّ منهما تجربة «الحكومة الانتقالية» فى شمال حلب، وغيرها مما سمى حينها «المناطق المحرّرة».. والتى لم يعُد يتحدّث عنها أحد رغم كلّ الدعم الدولى الذى عرفته سابقا. واللافت اليوم هو أنّ الحديث عن اللامركزيّة يأتى بعد سيطرة «حكومة الإنقاذ» على مناطق فى سوريا كانت تخضع للدولة ولإدارتها المركزيّة، وفى هذه المناطق بالذات، وليس حقا فى سياق تفاوض لإعادة توحيد البلاد مع «الإدارة الذاتية».
• • •
جميع الدول التى عرفت حروبا أهلية وصراعات إثنية أو طائفية، أو حتى طبقيّة، حادة وعنيفة، شهدت نقاشات واصطفافات حول اللامركزية والفدراليّة، لغياب الثقة بين أطياف المجتمع وحيال السلطة المنتصرة أو سلطات الأمر الواقع القائمة. مضمون هذه النقاشات هو إعادة بناء عقد اجتماعى بين الدولة والمواطنين وتوزيع السلطة والثروة. وكثير من الحلول التى ابتُكِرت فى هذا السياق لإنهاء الصراع، من البوسنة والهرسك إلى العراق، خلقت أوضاعا هشة غير مستقرّة مع استمرار ضمنى للصراعات وتبعية للخارج لضمان عدم انفجارها مجدّدا.
هذا فى حين لا يعنى استخدام تعبير «فدرالية» أو «اتحاد» فى صيغة دساتير دول راسخة الكثير، مادام هناك تداولٌ للسلطة السياسيّة عبر الانتخاب الشعبى. ألمانيا دولة فدراليّة، والولايات المتحدة اتحاد دول، وهناك تداول للسلطة السياسية فى كليهما، فى المركز كما فى الأقاليم.
والسؤال الجوهرى فى جميع الحالات هو: هل الأمر يتعلّق بتقاسم السلطة بين أمراء حرب أو زعامات، أم بتوزيع صلاحيات الدولة كمؤسّسة، أو مجموعة مؤسسات، على المستويات المختلفة حتّى الأقرب منها للمواطنين؟
لا يأخذ استفراد منتصِرٍ بسلطة مطلَقة إلى حل مستدام يحافظ على وحدة البلاد، ولا تقاسمها بين زعامات تعتمد على هويّات أو مناطق معيّنة، سواء أكان التقاسم ضمنيّا أم مؤسسًا على «شرعيّة» دستور «فدرالى». ذلك أن جميع هذه الصيغ تخرج من منطق الدولة بمعنى كونها جسماً مؤسساتيّا دوره أن يخدم المواطنين، لا الأفراد الذين يستأثرون بالحُكم، مركزيا أو محليا. ولأن توزيع الثروة ـــ وهو دور أساسى للدولة - بين الأغنياء والفقراء، وبين المناطق الغنيّة والمناطق الأكثر فقرا، يغدو استجلابا للثروة نحو السلطة للحفاظ على الهيمنة، أكانت سلطة واحدة مطلقة أو سلطة موزعة بين زعامات. ومثالا لبنان بعد اتفاق الطائف، والعراق بعد الدستور الذى وضعه الاحتلال الأمريكى، حاضران فى أذهان السوريين.
• • •
الدولة هى مؤسّسة، بل مجموعة مؤسسات. هدفها الأوّل والأخير هو تنظيم حياة المواطنين لخدمتهم، ولخدمتهم فقط. مؤسّسة عسكريّة وأمنيّة تمنح الأمان للجميع، وتصون وحدة البلاد، وتحميها من التهديدات الخارجيّة. مؤسّسة لا تقوم بانتهاكات تجاه حريّاتهم الفرديّة أو الجماعية، ولا تستنفِر عصبيّات هويّات فئةٍ ضدّ فئةٍ أخرى مهما كانت طبيعتها. ومؤسّسة قضائيّة تطبّق القانون وتصون الحقوق حتّى، أو خاصّة، تجاه أعضاء السلطة القائمة. ومؤسسات تشريعيّة تضع القوانين وتطوّرها تبعا لتطور الأوضاع. ومؤسّسة تنفيذية تعمل ضمن القانون وتحت سلطة القضاء، بما فيه الإدارى، على خدمة المواطنين وتمثيلهم.
لا يأخذ استفراد سلطة مطلقة بالجهاز التنفيذى، أو واقع توزيعه على أمراء، حقّا إلى خدمة المواطنين، لا على الصعيد المركزي، أى الوزارات والإدارات، ولا على الصعيد المحلى، أى المحافظات والإدارات المحليّة. كما أثبتت التجربة أنّ الأجهزة التنفيذيّة الشديدة المركزيّة تفشل فى تحقيق التنمية والعدالة فى الأطراف. وكان انعدام العدالة فى هذه الأطراف أحد الأسباب الرئيسيّة لاندلاع الصراعات الأهليّة، وإن أخذت لاحقا صبغة طائفيّة أو إثنيّة للتنوّع السكّانى الموجود. وبما أن المشاركة الشعبيّة الفعّالة هى أساس العدالة، فإنّ أغلب الدول الحديثة قد اعتمدت مبدأ «القرب» أو «اللامركزيّة الوظيفيّة» (subsidiarity)، الذى يفترِض أن تؤخذ القرارات وتُنفّذ على المستوى الأقرب للمواطنين بحيث يشاركون فى خياراتها وتُنَفّذ بشكلٍ أفضل. ومن هنا نشأت أساسا مؤسسات المجالس المحليّة للمحافظات والمدن والأجهزة التنفيذيّة فيها، بما فيها فى سوريا.
وهناك تجربة تاريخيّة لافتة للمجالس المحليّة فى سوريا قبل الصراع. إذ كان لها ميزانيّاتها التى تُصرَف على أجور موظفيها المعنيين بالخدمات العامّة للمواطنين، ولها أيضاً إيراداتها التى يأتى أغلبها من الرسوم المحليّة الخدميّة والعقاريّة. هذا فى حين تموّل الحكومة المركزيّة المشاريع التنمويّة الأكبر من طاقة المحليّات. هذه التجربة كانت معاقة لأنّ السلطة التنفيذيّة بيد المحافظ المعيّن من قبل السلطة، لا بيد المجلس المحلى المنتخب. وكان ذلك يؤدّى إلى إشكاليات تتفاقَم.
• • •
اللافت اليوم فى سوريا هو نموّ الإرادة الشعبيّة نحو تفعيل الإدارات المحليّة، ليس فقط نتيجة للاحتقانات التى نتجت عن الأحداث الدامية فى بعض المناطق، بل أيضا لغياب اهتمام السلطة، وبالتالى الدولة المركزيّة، عن تنفيذ الحدّ الأدنى من الخدمات والعدالة بين المناطق. فها هى فعاليّات مدينة حمص الاجتماعيّة تُقصى رئيس مجلس المدينة المعيّن وتقيم احتفالا (سُمّى «أربعاء حمص») تجمع فيه تبرّعات لمعالجة أولويّات تعافى الخدمات محليّا. وها هى فعاليّات محافظة درعا تناقش مع مجالس البلديات أولويّاتها، وتقيم هى أيضا احتفالا (سُمّى «حوران البشائر») جمعت فيه تبرّعات كبيرة لتنفيذها. ويبدو أنّ مدنا ومحافظات أخرى تستلهم هاتين التجربتين، خاصّة وأن المبالغ التى أُعلِن عنها تخطّت نسبيّا ما أُعلِن عنه فى احتفال «صندوق التنمية» الذى ابتكرته السلطة.
هذه التحرّكات لها دلالتها: أنّ المجتمع يحتاج إلى مؤسسات دولة قريبة منه لتأمين حياته. والمجالس المحليّة وأجهزتها التنفيذية هى أيضا مؤسسات دولة. والمهمّ أن تأخذ هذه التحرّكات حقّا طريقا مؤسساتيا، أى أن توضع التبرّعات المجمّعة، أو أى معونات خارجيّة، فى ميزانيات المحليّات، وتتمّ مراقبة صرفها وتنفيذ الأولويات، لا أن تكون بالمقابل وسيلةً للنفوذ المباشر أو عبر «جمعيّات». وهذا ينطبق ليس فقط على تحرّكات حمص ودرعا، بل أيضا على السويداء المنكوبة والمحاصرة، وعلى طرطوس واللاذقية وحلب وحماة، وعلى محافظات الشمال الشرقى.
هذا كلّه فى الوقت الذى لا تتميّز فيه الممارسات الحالية للسلطة بالشفافيّة وبالحفاظ على الدولة كمؤسّسة. فما معنى أن يقال إن وزارةً ما لها استقلال إدارى ومالى؟ وما معنى أن تأتى أجور موظفى وزارة أخرى مباشرةً من تمويلات خارجيّة لا عبر الموازنة العامّة للدولة؟ وما معنى أن يتمّ ربط جميع المؤسسات المنشأة حديثا مباشرةً برأس السلطة؟!
إشكاليّة انتقال سوريا من الصراع نحو الاستقرار هي، قبل كلّ شيء، إشكاليّة داخليّة، وليست إشكاليّة الخارج مهما كان نفوذه. إنّها إشكاليّة مجتمع ودولة وسلطة. المجتمع بحاجة إلى دولة على الصعيد المركزى والمحلّى تؤمّن له الأمان والعيش والخدمات. والدولة بحاجة إلى صون مؤسساتها وتطويرها لمواكبة مرحلة انتقالية صعبة. إذ لا يُمكِن لا للامركزيّة ولا للفدراليّة أن تكون حلاً إلا مع دولة مركزيّة قويّة وفعّالة، دولة عادلة وحياديّة تجاه كلّ المجتمع وكافّة المناطق.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات