مرت السنوات مسرعة منذ كنا صغارا نمضى عطلة الصيف كاملة فى الإسكندرية. العمارة التى ورثناها عن جدى فى الشاطبى فى مواجهة البحر، مازالت تكافح عوامل التعرية القاسية بشموخ لأكثر من ثمانين عاما، لكن حالها تغيرت كثيرا عن فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، فقد عبثت بها يد الإهمال بعد أن غاب عنها أصحابها حينا من الدهر. حديقة غنّاء كانت تفصلنا عن مسرح بيرم التونسى، ذلك المسرح الذى كنت أقصده بانتظام مع أخى وليد الذى يكبرنى بعامين.. شاهدنا عشرات المسرحيات، وكانت الحديقة مرتعا لكل أطفال المنطقة، خاصة صغار الممثلين الذين كانت لهم أدوار ثانوية فى المسرحيات المعروضة، كانوا يستعدون للخروج إلى خشبة المسرح بإحماء مرهق فى ملعبنا، وكانت كرة القدم كعادتها سيدة كل الألعاب. فى لعبة الكرة تنشأ الصداقات العابرة، نقاء الطفولة يساعد على عقد هذا النوع من الروابط السريعة.
بين هؤلاء الأطفال كان هناك طفلان شقيقان دون البلوغ يرتديان الجلباب ويتحدثان بلهجة صعيدية مبهجة، أتألم اليوم وأنا أقص القصص وقد نسيت اسميهما. أراهما فى الذاكرة أشباحا، أميزهما بصندوقين خشبيين يحملانهما طوال الوقت. الصندوق موثوق بحبل دقيق يتدلّى حول العنق، يشف الزجاج بأحد أركانه عن أنواع من التسالى المغرية للصغار من لب وسودانى وبعض الحلوى. كانت تلك حرفتهما التى يساعدان بها الأبوين. المرور على مقاهى البحر فى وقت الصيف بطول طريق الجيش لبيع بعض المحمّصات رخيصة الثمن ليس عملا ممتعا، ناهيك عن كون عمالة الأطفال على اختلاف أنواعها شيئا يوجع القلب. هل يحتمل فؤادك مشهدا لابنك الصغير يحمل هذا الصندوق حول عنقه، يقطع به كيلومترات، ليمر بين عشرات المقاهى متحملا إيذاء ومضايقات الزبائن والمنافسين؟! نعم فعلى الطفلين احترام مناطق النفوذ للبائعين المتجوّلين بصناديق مشابهة. بعضهم يدير نشاطا علنيا صغيرا للقمار! يمد الزبون يده فى كومة من الفستق يكبش ما أمكن لكفه أن يعيه ثم عليه أن يخمّن إن كانت الحفنة رقما فرديا أم زوجيا، فإن صدق تخمينه ربح الحفنة ولا يدفع نظيرها شيئا للبائع المسكين، وإن خاب تخمينه دفع رقما مقطوعا (خمسون قرشا مثلا) ولا يحصل على شىء، ثم يعيد الكرّة. كنت أعجب لدى مشاهدتى من نافذة شقتنا رجلا ثريا ينزل من سيارة فارهة ليجلس على مقهى سياحى تحت العمارة، يمسك الشيشة فى يد تزينها ساعة ذهبية واليد الأخرى يجرّد بها بائع الفستق من نصف ما يحمله من بضاعة، مباهيا أصحابه بأنه لم يخسر فى لعبة القمار ضد هذا المحتاج!
صاحبى الذى اتخذته صديقا من الشقيقين لم يلوّث يده بهذا الميسر. كان متدينا عفيف النفس وكان يدرس فى الشتاء، فلم تمنعه ظروف المعيشة عن التفوّق فى دراسته، ولم يمنعه كسب لقمة العيش من اختلاس بعض الدقائق للعب الكرة مساءً فى الصيف.. كنا نريد مساعدته فأحاول أنا وأخى أن نشترى منه بمصروفنا ومكافآت النجاح بعضا من التسالى، وإن كنا لن نأكلها كونها مكشوفة معظم الوقت، فما كان منه إلا أن يعطينا ما نريد وأكثر ولا يقبل ثمنا! كان على احتياجه أكرم منا جميعا، يسعد بهداياه الصغيرة لنا، يحسبها عربونا لصداقتنا، وما أغناه عن ذلك إذ نحن الأحوج إلى صداقته وإخلاصه. امتنعنا إذن عن محاولاتنا البائسة لمساعدته، إذ كانت عليه غراما، هو صديق وكفى، هو ندّ لنا يتميّز علينا بعمل يده، وكان نبى الله داود يأكل من عمل يده.
***
أذكر يوما قصدت فيه أبى أسأله السماح لى بالعمل فى الصيف، فما كان منه إلا أن تبسّم كعادته وسألنى بطريقته البارعة عمّا أريد أن أعمل وأنا بعد صغير السن لم أتجاوز العاشرة. قلت له أريد أن أبيع التسالى مع صديقى، ولا أحتاج إلى كثير رأسمال، فقط مجهودى وكفى. لم ينهرنى أبى ولم ينزعج لطلبى بل أحسبه رق له وصرفنى بذكاء عن مطلبى بأن اقترح عددا من البدائل لشغل وقت الفراغ، ومنها ما يمكن أن يكون مشروعا مناسبا لسنى... كان أبى ماهرا فى إقناعى، وإن تمرّدت على أى قرار له فلم يكن إلا تنفيسا عن حالة من الغضب لكون الخيرة فيما لا أبتغى، لكن الحكمة فى رأس أبى تجرى على لسانه، والحكم ما نطق به أول مرة حتى وإن تركنى وشأنى لعنادى، كنت أعود دائما إلى ما أراد مقتنعا بأنه لا يريد بى إلا خيرا.
ألهمنى صديقى حامل الصندوق الخشبى أن أمارس بعض النشاط الاقتصادى فى عطلة الصيف، حتى أنى أذكر مشروعا صغيرا لتربية الكتاكيت أقمته مع جار صديق يعمل اليوم فى سلك القضاء. مشروعات كثيرة بعضها نجح وأكثرها فشل، تعلّمت منها كيف أقابل النجاح والأهم من ذلك كيف أكافح الفشل ولا أستسلم له، كيف أرى الفرصة وأقيّم البدائل استنادا إلى رصيد من التجارب الساذجة البسيطة. لكن صديقى صاحب الصندوق الخشبى علّمنى أكثر من ذلك، علّمنى بالفعل لا بالقول أن الكريم هو من يجود بكل ما يملك على قلّته، لا من يمنّ ببعض ما يملك على كثرته. علّمنى أن الرجولة لا يبلغها المرء فى سن معيّنة، وإنما بتحمّل المسئولية. علّمنى أن الفقر ليس عذرا لفساد التربية وضياع القيم، وأن الفقير الحق هو من افتقر إلى حسن الخلق لا إلى المال. علّمنى صاحبى أكثر مما أحصى إذ امتزج أثر صداقتنا العابرة بتكوينى ونشأتى حتى صرت إلى ما وفّقنى إليه الله اليوم.
ابتلعت الأيام حامل الصندوق كما ابتلعت كثيرا من ذكريات الطفولة، لا أذكر آخر مرة رأيته فيها، كما لا أذكر آخر مرة ودّعت فيها الحاج اسماعيل، ذلك الشيخ الطيب ذو اللحية المكتسية بالمشيب، الذى كان يجلس دائما فى زاوية بالمسجد الصغير (مسجد الصحابة) خلف عمارتنا فى حى الشاطبى. كنت أقابله فى أوقات الصلاة إذ كان لطول فراغ عطلة الصيف أثره المحمود على التزامى بصلاة الجماعة فى معظم الأوقات بالمسجد. كان يعلمنا الكثير من سنن الصلاة، وهيئتها، وختمها، يفعل ذلك ناصحا مبتسما لا معنّفا أو وصيا، أهدانى وأخى ذات مرة سبحتين معطرتين مازلنا نحفظهما، كان معتدلا متزنا حتى حسبته ملاكا أنزل علينا يمشى بيننا مطمئنا... وفى ذات صيف سألت عنه خادم المسجد فعلمت منه أنه توفى، حزنت كثيرا لفراقه، وأحببت أن أتكلم عنه فى هذا المقال حتى أحفظ له بعضا من ذكراه التى لولا أن عليها شهودا لحسبتها نسجا من خيال الطفولة، فمثل هذا الرجل تقرأ عن سيرته وعزّ أن تلتقيه.
من أعظم نعم الله علينا أن ينثر فى مدارجنا أناسا أمثال صاحب الصندوق والحاج إسماعيل كأطياف عابرة، لكن أثرها فى النفس أعظم وأجلّ من كثير من الخلق الذين قال عنهم شوقى:
وقد يموت كثير لا تحسّهم....كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا