كنت على وشك كتابة مقال هذا الأسبوع عن «اقتصاديات الهجرة» تدبرا فى معانى ورسائل الهجرة النبوية المشرفة. عزمت على تبيان كثير من الأخطاء الشائعة فى استعراض الآثار السلبية للهجرة على البلد المستقبل الجاذب للمهاجرين، تلك الأخطاء التى يقع فيها كثير من العوام بل ونفر من الاقتصاديين، والتى مفادها أن زيادة المعروض من قوى العمل المهاجرة تؤدى إلى نتيجة واحدة فقط، وهى مزاحمة عنصر العمل الوطنى وطرده من سوق العمل، وزيادة نسبة البطالة خاصة فى فئات العمالة غير الماهرة؛ نظرا لأن البحث فى تلك المسألة عادة ما يغفل تأثير العمالة الوافدة على حجم الطلب الكلى، وحفزها للتشغيل ومن ثم خلق فرص عمل جديدة. وقفت من أجل ذلك على دراسات حديثة لتراجع معدلات البطالة فى بريطانيا خلال فترات زمنية شهدت أكبر موجات هجرة مؤقتة وافدة، وكذلك أثر الهجرة الدائمة الوافدة على الاقتصادين الأمريكى والكندى وعدد من دول أوروبا. الإحصاءات لا تكذب، حتى وإن حملتها البواعث السياسية على ذلك، حتى وإن استنطقها بعض المتشددين بما يدعم تقييد حركة انتقال العمالة عبر الحدود.
لكن إغواء الكتابة عن مستقبل الحياة السياسية فى مصر غلبنى على أمرى، فقبضت قبضة من أثر نتائج انتخابات مجلس الشيوخ، وأردت أن أتحدث عن مجلس النواب القادم، الذى يحمل أمانة التشريع والرقابة واعتماد الموازنة العامة والتصديق على المعاهدات، الذى يحمل لواء حماية حقوق مصر المائية، وتحقيق إصلاحات سياسية وتشريعية تواكب حركة الإصلاح الاقتصادى فى انطلاقها، بل ويعمل على ترشيدها وتصحيح مسارها. تخيل معى لو أن طريق الإصلاح الاقتصادى الذى تسلكه مصر بعزم وإصرار وتحقق من خلاله العديد من المكاسب، تم اختياره بين عدد من البدائل المدروسة من خلال مجلس نيابى فاعل فى الحياة السياسية. لا نطعن أبدا فى فاعلية المجلس الراهن، أو نجزم بانفصاله عن الناس، فتلك مسائل تقديرية لا تعرف اليقين، لكننا لا نريد أن نصم آذاننا عن الطرق الذى يسمعه الجميع ولا يذكرون عنه شيئا، ذلك الطرق الذى نتج عنه مشاركة انتخابية ضعيفة فى انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة لا تتجاوز 14% من الكتلة التصويتية، ناهيك عن غلبة الأصوات الباطلة، وشيوع حالات الاستنفار بشراء الأصوات، وتزكية قائمة واحدة لا تعكس سوى عزوف عن المشاركة فى الترشح من البداية وليس فقط عن التصويت. نعرف أن الظرف الراهن للوباء يساعد على العزوف، لكن المرض مزمن فى مسار الحركة الوطنية المصرية، والتى عادة لا يعرف ميزان حرارتها سوى رقمين هما الصفر والمائة؛ إما العزوف التام عن أية مشاركة سياسية، والتسليم بأنها لا تخص الشعب ولا تعبر عنه، أو الانتفاضة والثورات والهبات العنيفة فى الشارع! موازين المشاركة تعرف الكثير من الأرقام بين الصفر والمائة، تعرف أرقاما تزيد تدريجيا لتحقق التحسن وتحدث الفرق.
***
أعلم وأنا أسلك هذا الاتجاه فى عرض المسألة وقبل أن أفيض فى وصفه أن عددا من القراء قد انقسموا بالفعل بين من يرى العزوف نتيجة لحالة سياسية باهتة، أو سببا فى بلوغ تلك الحالة. واقع الأمر أن العزوف سبب ونتيجة، وأننا ندور به فى دوائر مفرغة، لو أن الممتنعين عن المشاركة فى الحياة السياسية أصروا على وضع شروط مسبقة لمشاركتهم فيها، ومنها مثلا تعديل القوانين، وخلق بيئة مثالية للانتخابات، وعدم التدخل الأمنى تماما فى مسار العملية الانتخابية... وكلها مطالب مشروعة بل هى مطالب توجد بداهة فى أى دولة ديمقراطية تحكمها إرادة الشعب. لكننا بصدد وضع متكلس مركب خلقته صراعات وتشابكات تاريخية أزعم متفقا مع كثير من المحللين أنها غيرت من تركيبة المواطن المصرى ذاته، وهزت ثقته فى كل ألوان الطيف السياسى، فلم يعد يرى على الساحة سوى الأبيض والأسود. وإذا كان المصرى الحديث حريصا على التغيير ولكن فى صورة انفجارات متباعدة، تأتى بعد كبت طويل، ولا تفعل شيئا غير أنها تصيب الأجزاء السليمة من أى نظام قبل الأجزاء المعطوبة منه، ولا تترك للمصريين طاقة بعدها لإعادة البناء، فإن المصرى القديم الذى صبر عشرين عاما على بناء أحد الأهرامات لتكون لمن خلفه آية وعلامة على قدرة المصريين وتميزهم، قد أحب الترميم، وصبر على إصلاح التفاصيل ونحت الجرانيت كما لم يصبر أحد من العالمين.
التغيير من داخل أى نظام قديم ليس سهلا، بل تعترضه الكثير من العقبات، أولها وأهونها إحباطات يخلقها البعض عمدا أو يأسا، ينشرون بها عدوى السكون والدعة وانتظار الفرج من الله بغير سعى! ذلك مناف لسنة الله فى أرضه؛ فإن جاوزت بعزمك تلك العقبة، فسوف تواجهك عقبات تشريعية وأخرى تنفيذية وربما أمنية لم يقل أحد أنها بسيطة، ولكن الأمل معقود عليك لإزالتها وتغييرها تباعا وتدريجيا، فكيف تطلب ممن خلقوها أن يغيروها من أجلك؟! إذا افترضنا جدلا أنهم خلقوها عن ضعف وجهل لا عن عمد وسبق إصرار، فهم بعد على حالتهم لم يتغيروا، فكن فيهم مشكاة نور تغير ما استطعت، لكن لا تعتزلهم وتشمت فى نوازلهم، ثم تنتظر الانفجار بعد عقود من اليأس والإحباط الذى كنت أنت أهم أسبابه وضحاياه! والتدرج هو باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله.
يقول نبى الله شعيب: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» وقال «ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير» وصبر سيدنا نوح فى دعوة قومه ما لبث فيهم (ألف سنة إلا خمسين عاما) ولولا صبره على أذى قومه وجهلهم، لحرمت البشرية من أمم وشعوب، هم نبت القليل الذين آمنوا معه وركبوا السفينة ونجوا من الطوفان العظيم. وكل أنبياء الله الذين أرسلوا لمحاربة لون أو أكثر من ألوان الفساد فى الأرض، لم يبعثوا إلا مذكرين ومنذرين ومرممين وآمرين بالعرف ومعرضين عن الجاهلين.. فالتمس منهم المثل والقدوة ولله المثل الأعلى. يقول خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم فى الحديث الشريف عن أبى هريرة: « إنَ مَثَلى ومثلَ الأنبياء منْ قَبلى، كَمَثَلِ رجلٍ بنى بَيْتا، فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلا مَوْضعَ لَبِنَةٍ من زاوية، فَجَعَلَ النَاسُ يَطُوفونَ بِهِ، ويَعْجَبونَ له، ويقُولونَ: هَلَا وُضِعَتْ هذه اللَبِنَة؟! قال: فأنا اللَبِنَة، وأنا خاتمُ النَبيِينَ» فالذى بعثه بالحق لم يأمر بهدم كل ما مضى والبناء على أساس جديد.
***
عدنا إذن إلى نفحات الموضوع الذى استبدلناه، وأبى القلم إلا أن يلتمس من عبق صاحب الهجرة حكمة الصبر على الإصلاح من الداخل، مهما كان الثمن، ومهما كانت صنوف الفساد وأشكال الترهيب، «ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت»، فما بالك وأنت فى وطنك وسربك آمن لا يحاربك أحد على دينك وعقيدتك، ولا يستفزك منها أصحاب الحكم بغير ذنب، بل إنك تعلم أن رئيس الدولة ذاته قد أعلن الحرب على الفساد والمفسدين، لكنه وحده لن يستطيع بكل تأكيد، فالفساد مؤسسة ومصالح مؤتلفة.
من الأخطاء الشائعة فى مسألة التغيير من الداخل أنك لن تفعل شيئا ولن تصلح فسادا ما بقيت الأغلبية غير فاعلة، لكن التاريخ يعلمنا أن الفرد يمكن أن يصبح أمة، بل إنى أرى السياسة فى بلادنا مائدة مبسوطة توضع عليها أصناف الطعام، ولا يجلس عليها إلا تسعة رهط والملأ من ورائهم محجوبون، فإن هم أكلوا ولم يبد أحد منهم ملاحظة واحدة على نوع الطعام، وهيئته، وطعمه، وقوامه، لظل الطاهى على حاله، ولفرغ المطبخ من كل طيب؛ لكن إذا زاحم هؤلاء الرهط رجل واحد فوق المائدة، فكان يعترض على هذا، ويضع الملح على ذاك، ويحاسب الطهاة على منتجهم، ثم صبر على مقاومة الآخرين، لشعر الصامتون بالخزى فتكلموا، وشعر الطهاة بالحرج فأحسنوا، وشعر الملأ من ورائهم بالتحسن ولو بعد حين.
نرتقب إذن يوم يأتى مجلس النواب القادم «بقائمة الكتلة الحرجة» أو نحو ذلك من الأفراد الذين يمكن أن يجتمعوا على برنامج معتدل سوى يحقق للوطن ما يستحقه، ولا يهمل حق الدوائر الانتخابية فى التطوير والتنمية، وللحديث بقية..