في سبعينيات القرن الماضي لم يكن يعلم الطفل محمد أبو الضيف أنه سعيد الحظ يقابل أمهر صانعي كسوة الكعبة ويتحدث إليهم وجهًا لوجه، بل ويتعلم على أيديهم سر المهنة، إذ نالت مصر شرف صناعة كسوة الكعبة المشرفة وإرسالها إلى السعودية على مدى 7 قرون، وكان المحمل يخرج من قلب القاهرة بـ"زفة" حتى يصل إلى الأراضي المقدسة في أجواء احتفالية عظيمة بمشاركة رجال الدولة، قبل أن تتوقف عن إرساله عام 1962 في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر وتتولى آل سعود شرف صناعتها.
تمر السنوات سريعًا ويكبر الطفل الصغير ليسير على نهج معلميه، بل ويحفر اسمه بخيوط من ذهب وسط صانعيها.
"مهنتي اسمها السيرما تعلمتها وأنا في الصف الرابع الابتدائي"، هكذا بدأ محمد محمود أبو ضيف الشهير بـ"محمد أبو ضيف"، صاحب الـ53 عامًا، حديثه لـ"الشروق"، وقال إنه كان يعمل "صبي" فيها لدى ورشة "الحاج حميدو الموردي"، و"كانت تتولى تصميم وحياكة البادجات والأعلام والرتب العسكرية، ومع دخول الكمبيوتر بدأ العمل معهم في الآيات القرآنية والتي تعود في الأساس إلى صناعة كسوة الكعبة"، مشيرًا إلى أنه صادف صناع الكسوة في الورشة ولم يبخلوا عليه فتعلم على أيديهم.
-السيرما وكسوة الكعبة
"أنا الحمد لله ربنا كرمني ولحقت ناس كانت تعمل في كسوة الكعبة"، هكذا كشف أبو ضيف سر مهارته، قائلا: "كان يتردد علينا خلال عملي بالورشة عدد من الأسطوات الماهرين الذين شاركوا في صناعة كسوة الكعبة، حيث كان لديهم مكان مخصص في حي الحرنفش بالقرب من ورشة الموردي، وكانوا يعملون في الآيات القرآنية بالورشة خلال فترة الظهيرة فتعلمت المهنة على أصولها"، مردفا "اتعلمت حاجات منهم كتير في الصنعة بتاعتنا دي، ومابخلوش علينا بطرق صناعة كسوة الكعبة".
-أنواع وخامات متعددة
وأكد أبو ضيف أن السيرما لها أنواع متعددة هناك من ينفذها آيات قرآنية وأشكال إسلامية، ورسومات أيضًا مثل فن الأرابيسك، مشيرًا إلى أن أي مهنة يدوية بها شغل عربي يتم تنفيذها بسهولة.
وتابع، أما عن الخامات، فهناك "خوشخانة"، "نحاس"، خيط عادي، قصب، وحرير، مضيفًا يوجد 3 – 4 أنواع من الخامات بس معظمها للأسف مش مصرية يتم استيرادها من الخارج، في مقدمتهم الفرنسي ثم الهندي والياباني ثم يأتي الصيني في النهاية، لكن الخيوط والكرتون التي يستخدمها مصرية.
ولفت أبو ضيف إلى أن مدة العمل تختلف من قطعة لأخرى حسب الشغل التي تحتويها وحسب مقاسها وحجمها، مضيفًا: "في حاجة ممكن تاخد 10 أيام، وحاجة تاخد 15 يومًا"، مردفا، "كل حاجة بتتعمل بس بتبقى بالطلب، لكن اللي ماشي والمعتاد نموذج من كسوة الكعبة، الناس بتزورها وتطلب تعملها عندها، فهو ده اللي ماشي عندنا بالخيط القصب العادي، ويوجد منه الفضي والذهبي، والقماش الأسود المعتاد، أما القماش الألوان الأخرى يكون بالطلب".
-موسم رمضان
وأردف، "مهنتي تعتمد على الآيات القرآنية بشكل كبير، لذا تنتعش رواجها مع حلول شهر رمضان المبارك، مع زيادة النزعة الروحانية لدى الكثيريين وحرصهم على أداء الفرائض والنوافل كالصوم والصلاة وتلاوة القرآن، يحرصون أيضًا على اقتناء الآيات القرآنية وتزيين منازلهم وأماكن عملهم بها، وكذلك موسم الحج فهذا موسمنا أيضًا".
-مهنة صعبة يقدرها الغرباء
وأشار أبو ضيف إلى صعوبة مهنته، وخاصة مرحلة التركيب، أي تركيب أكثر من قطعة بألوان وخيوط مختلفة، بالإضافة إلى أنها تحتاج تركيز عالي وقد تسبب زغللة العين، فهي صعبة وتحتاج مجهود وتركيز في نفس الوقت، لافتا إلى عدم تقدير الشغل اليدوي محليًا بما يستحق، قائلًا: "اللي بيعرف للأسف قيمة الشغل اليدوي مش المصري، بيبقى الأجنبي".
ويوضح أبو ضيف أن بعض المواطنين اعتادوا رؤية الأعمال اليدوية، فأصبح لا ينبهر بها، والبعض الآخر يجهلها ويجهل قيمتها لدرجة أن هناك من لا يستطيع التفرقة بين العمل اليدوي والعمل المصنعي.
لم يقتصر أبو ضيف على فن السيرما في كتابة لوحات الآيات القرآنية على القماش، لكنه أبدع بتصاميم أخرى، مثل فازات ورسومات فرعونية مختلفة، وأخرى ذات هوية قبطية مثل بابا نويل، بالإضافة إلى زخرفة أسماء الشخصيات أو زخرفة منديل "كتب الكتاب"، لاستقطاب الزبائن والسائحين بمختلف الديانات.
-زيارة الكعبة أهم أمنياته
يتمنى أبو ضيف زيارة الكعبة المشرفة سواء كان معتمرًا أم حاجًا، فهو يشتاق إلى زيارتها كثيرًا، فضلا عن الحفاظ على مهنته وتوريثها لأجيال وأجيال من بعده، معربًا عن امتنانه لها، قائلا: "الشغلانة دي فيها قيمة حلوة أوي، إن الواحد أما يقعد يمسك الإبرة ويشتغل وبيعمل حاجة.. معظمها قرآن وفيها فن برضو في نفس الوقت، وكل ما يخلص فيها ربنا سبحانه وتعالى يكرمه".
وأعرب أبو ضيف عن سعادته بكتابة آيات الذكر الحكيم، وثواب كل ما يقرأها أو يشاهدها بعده، قائلا: "لما بعمل حاجة وتتعلق في المكتب أو في صالة أو في مسجد، وحد يشوفها ويقرأها ببقى مبسوط جدًا، مش من الناحية المادية، بس كلمة الله اللي بتخرج منه انبهار بجمالها دي بكون مبسوط بيها جدًا، لذلك الحمدالله بحاول أكون مخلص فيها حتى تخرج كلمة الله بثوابها".