سعى الكرملين، طوال عقود إلى ترهيب القوى الأجنبية بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا الحالية، وشكلت التهديدات النووية وسيلة مهمة سعت من خلالها الحكومة الروسية إلى تقييد المساعدات الغربية لكييف، ومع ذلك، يبدو أن فعالية سياسة حافة الهاوية النووية التي تنتهجها موسكو تتضاءل، وفقا للمحلل الأمريكي توماس كينت، الزميل البارز في قسم الاتصالات الاستراتيجية في مجلس السياسة الخارجية الأمريكي والمستشار في الدعاية والشؤون الروسية.
وقال كينت، في تقرير نشرته مجلة "ناشونال انتريست" الأمريكية، إنه في الأسبوع الماضي، أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى رفضه لتلويح فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية، وقد توج رفض ترامب لأحدث تحذيرات بوتين النووية شهرا سيئا بالفعل للرئيس الروسي – وهو شهر شهد إلغاء قمة أمريكية روسية في بودابست بعد أن اتضح أن بوتين لن يوافق على وقف إطلاق النار في أوكرانيا، كما فرض الرئيس الأمريكي عقوبات على أكبر شركتين نفطيتين في روسيا، وتحدث علنا عن إمكانية إرسال صواريخ توماهوك بعيدة المدى إلى أوكرانيا، وتردد أنه سمح بتقديم مساعدة استخباراتية جديدة لأوكرانيا لتسهيل توجيه ضربات على البنية التحتية للطاقة في عمق روسيا.
وأشار كينت، إلى أن رد بوتين كان متوقعا، فقد أصدر يوم 26 أكتوبر، نسخة جديدة من التهديدات النووية التي كان يوجهها منذ غزوه لأوكرانيا عام 2022، وأعلن الزعيم الروسي، بينما كان يرتدي زيا عسكريا، أن حكومته اختبرت للتو صاروخا يعمل بالطاقة النووية وقادرا على حمل رؤوس نووية، يمكنه إيصال حمولة نووية إلى أي مكان في العالم.
وردا على سؤال في اليوم التالي عن تصريح بوتين، أجاب ترامب بهدوء أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى صواريخ تجوب العالم لأن الغواصات الأمريكية قادرة على ضرب روسيا من مسافة قريبة، مضيفا: "نحن نختبر الصواريخ طوال الوقت".
وبعد ذلك، أوضح ترامب، وقد بدا عليه الغضب، أن حديث بوتين عن الصواريخ لم يصرف انتباهه عن مطالبة روسيا بالموافقة على وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
وقال ترامب بحدة: "ينبغي عليه إنهاء الحرب.. حرب كان من المفترض أن تستغرق أسبوعا واحدا، تقترب الآن من عامها الرابع. هذا ما كان ينبغي عليه فعله بدلا من اختبار الصواريخ".
وقال كينت، إن الكرملين بالطبع لديه تاريخ طويل من هذه التهديدات النووية، فقد تفاخر الزعيم السوفيتي الأسبق نيكيتا خروتشوف كثيرا بالقدرات النووية للاتحاد السوفيتي، وأكد ذلك بتجربة في الهوء الطلق لأقوى سلاح نووي في العالم، "قنبلة القيصر"، عام 1961، وفي وقت لاحق، أمر بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بتطوير صواريخ تكتيكية جديدة لمواجهة ما اعتبره تهديدا متزايدا من حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي عام 2018، قال بوتين بغرور إنه واثق من أن روسيا ستنتصر في أي حرب نووية، ولو فقط في الآخرة، مشيرا إلى أنه في حال توجيه ضربة نووية لروسيا، سيكون انتقام موسكو سريعا لدرجة أنه "بينما سنذهب نحن، ضحايا العدوان، إلى الجنة كشهداء، سيموتون هم ببساطة، لأنهم لن يجدوا حتى الوقت للتوبة".
وقال كينت إنه عندما غزا بوتين أوكرانيا، ذكر مجددا شبح الحرق النووي، قائلا "من يحاول التدخل ضدنا، ناهيك عن خلق تهديدات لبلادنا، لشعبنا، يجب أن يعرف الناس أن رد روسيا سيكون فوريا وسيقودكم إلى عواقب لم تواجهونها من قبل في تاريخكم".
وقد كان لتحذيرات بوتين تأثير بالتأكيد في بداية الحرب، حيث قال قادة غربيون، إنه يجب أن يصدق الناس كلامه، وفي أكتوبر 2022، صرح الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بأن بوتين "لا يمزح عندما يتحدث عن الاستخدام المحتمل للأسلحة التكتيكية والنووية".
وأضاف: "لم نواجه احتمال وقوع معركة نهاية العالم منذ عهد كينيدي وأزمة الصواريخ الكوبية".
ودافع المستشار الألماني السابق، أولاف شولتس، عن حذره بشأن إرسال دبابات ليوبارد إلى كييف، قائلا: "علينا بذل كل ما في وسعنا لتجنب مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وقوة عظمى مدججة بالسلاح مثل روسيا، قوة نووية".
وفي الوقت الذي تحدث فيه بايدن، كانت أوكرانيا تطالب بشدة بالحصول على صواريخ "أتاكمز" الأمريكية للمضي قدما في تنفيذ هجومها على خاركيف، الذي طردت فيه القوات الروسية من ثاني أكبر مدنها، وأبعدتها بعيدا إلى الشرق، وبدت أوكرانيا في وضع يسمح لها باستعادة المزيد من الأراضي، وربما محاصرة آلاف الجنود الروس.
ولكن إدارة بايدن تراجعت، وكانت المخاوف بشأن التهديدات النووية الروسية سببا رئيسيا في ذلك، وذكرت شبكة "سي إن إن" أن الولايات المتحدة كانت قلقة "ليس بسبب مؤشر واحد، ولكن مجموعة من التطورات والتحليلات، والأخطر من ذلك، معلومات استخباراتية جديدة شديدة الحساسية" أفادت بأن بعض القادة الروس من المستوى الأدنى يتحدثون صراحة عن الاستخدام المحتمل لسلاح نووي.
وقال إيليا بافيلينكو، رئيس الاستخبارات الأوكرانية السابق، إن كل هذا كان خدعة، ووفقا لروايته، زودت روسيا عملاء غربيين معروفين بسيل متواصل مما بدا وكأنه مؤشرات ملموسة على استعدادها لاستخدام أسلحة نووية لمنع الولايات المتحدة من إرسال صواريخ "أتاكمز" لأوكرانيا، وكان لهذا التضليل، بدوره، تأثير واضح على حسابات أمريكا - وعلى سياسة إدارة بايدن الخاصة بأوكرانيا.
ويرى كينت، أن الأمر لم يعد كذلك الآن. كما أن ترامب ليس الوحيد الذي ينظر بشك متزايد إلى تهديدات بوتين النووية، فقد قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في نوفمبر الماضي إن "الخطاب غير المسؤول" من روسيا بشأن الحرب النووية "لن يثنينا عن دعمنا لأوكرانيا".
وانضمت السويد إلى حلف الناتو في 24 مارس 2024، رغم تحذيرات السفارة الروسية من أنها ستصبح "هدفا مشروعا لإجراءات روسيا الانتقامية".
كما تواصل ألمانيا عملية إعادة تسليحها، رغم أنه كان لديها مخاوف قوية منذ فترة طويلة من الأسلحة النووية الروسية.
واختتم كينت، تحليله بالقول إن بوتين سيواصل بلا شك خطابه النووي، لكن يبدو أن القادة الغربيين عازمون على وضع سياسات تستند إلى الحقائق على الأرض، وليس إلى محاولات الكرملين للترهيب النووي.