شُيعت جنازة عسكرية مهيبة للفريق جلال الهريدي، ظهر اليوم، من مسجد المشير حسين طنطاوي، وسط حضور عدد من قادة القوات المسلحة والشخصيات العامة وأعضاء مجلسي النواب والشيوخ ورؤساء الأحزاب.
يتمتع الفريق هريدي بسيرة عسكرية طويلة وذات تأثير كبير بين قادة القوات المسلحة؛ حيث أسس الراحل سلاح الصاعقة بالجيش المصري، إلى جانب مشاركته في حروب مصر، بداية من العدوان الثلاثي وصولاً إلى انتصار أكتوبر المجيد في عام 1973.
برز هريدي في موقع القيادة بشكل مبكر، بانضمامه لتنظيم الضباط الأحرار الذي أطاح بالحكم الملكي في يوليو 1952، وأصبح على درجة شديدة القرب من المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش والصديق الأقرب للرئيس جمال عبد الناصر.
صندل ودور شطرنج.. كيف بدأت العلاقة بالمشير عامر؟
تحدث الفريق هريدي، في حوار صحفي، عن ظروف بداية تعرفه بالمشير عامر (قبل ثورة يوليو، وقتما كان برتبة الصاغ)، قائلاً: "في إحدى المهام التي كنت مكلفًا بها كرئيس في رفح، وقعت حادثة طريفة ومهمة غيرت مسار حياتي."
ويتابع هريدي: "كان ارتداء 'الصندل' بديلًا عن البيادة ممنوعًا في الجيش، ورغم ذلك اضطررت لارتدائه أثناء توجهي إلى رئاسة الفرقة للتصديق على طلبات. أثناء وجودي في هنجر المظلات، فوجئت برئيس أركان الفرقة يقف على مصطبة عالية مرتديًا 'صندل' أيضًا. وبينما كنت أتقدم نحو المكتب، سألني رئيس الأركان بغضب: 'لماذا ترتدي الصندل، يا حضرة الضابط؟'"
وواصل هريدي: "ما زاد الموقف غرابة أن الصاغ عبد الحكيم عامر دخل المكان فجأة، فوجه حديثه لرئيس الأركان قائلًا بابتسامة ساخرة: 'جرى إيه يا سعادة الباشا، ما سعدتك لابس صندل برضه!' بعدها، اصطحبني عامر إلى مكتبه حيث كان يجلس بجواره الصاغ صلاح سالم. قام عبد الحكيم بالتوقيع على الأوراق دون مراجعتها، ثم علق قائلًا: 'هما دول الضباط اللي قارفينا في حياتنا، ولازم نخلص منهم'، في إشارة ساخرة لرئيس الأركان."
وأكمل قائلاً: "بعد ذلك، سألني عن مهاراتي في اللعب، وعندما أخبرته أنني أجيد الشطرنج، أبدى حماسه ودعاني للقاء في النادي بعد الظهر. هناك، لعبنا الشطرنج وتحدثنا مطولًا عن قضايا السياسة، الاستعمار الإنجليزي، وفساد الملك فاروق. خلال تلك المناقشات، عرض علي عبد الحكيم عامر الانضمام لتنظيم 'الضباط الأحرار'، مشددًا على ضرورة التخلص من الاستعمار والملك معًا."
إنقاذ الوحدة والتصدي لانقلاب السوريين: مهمة عبد الناصر لضابط شجاع
من المهام البارزة في تاريخ هريدي، ما جرى في أعقاب الانقلاب الذي وقع في سوريا يوم 28 سبتمبر 1961، إذ أُرسلت قوة من قوات الصاعقة المصرية بقيادة جلال هريدي إلى اللاذقية بهدف مواجهة الانقلابيين أو صدهم. كانت القوة مدربة تدريبًا عاليًا، ولكن الأمور اتخذت مسارًا مختلفًا عندما أعلنت حامية اللاذقية انضمامها للانقلابيين أثناء توجه الطائرات إلى هناك.
يروي اللواء جمال حماد، أحد الضباط الأحرار وكاتب بيان ثورة يوليو، كواليس تلك المهمة خلال حديث لبرنامج شاهد على العصر، قائلاً: "بمجرد وصول جلال هريدي والقوة المرافقة له إلى اللاذقية، طُلب منه عبر اللاسلكي من جمال عبد الناصر أن يسلم نفسه للسلطات السورية. بعد نزوله في المطار، وجد القوة محاصرة بسيارات مدرعة، وتم اعتقال الجميع. الجنود والضباط نُقلوا إلى سجون قاسية في الصحراء، بينما نُقل جلال هريدي إلى سجن المزة في دمشق، حيث عومل بشكل سيئ وتم استجوابه بطرق مهينة."
محاولات استدراج وبث الأكاذيب
وتابع حماد شهادته: "خلال فترة احتجازه، استُدرج جلال هريدي للحديث مع أحد معارفه السابقين من الصاعقة، حيث تم تسجيل الأحاديث (أساء خلالها للرئيس جمال عبد الناصر) دون علمه. استخدمت التسجيلات لاحقًا لتشويه صورته، وأذيعت في وسائل الإعلام ووزعت في كتيبات بمختلف الدول العربية، مدعية أنه انتقد القيادة المصرية بشدة."
ويقول حماد في شهادته: "عبد الناصر قال: 'لك ده لازم ينكل به، أول ما يجي لازم يطلع بره الجيش.' فعبد الحكيم عامر، طبعًا، سنده وقال له: 'طيب، بس سيبه شوية كده لما الناس تنسى الموضوع وحاجات زي دي.'"
حكم بالإعدام
تحدث هريدي عن تصاعد توتر العلاقة بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر عقب نكسة يونيو 1967، قائلاً في حوار له: "بعد هزيمة يونيو 1967، تم القبض عليَّ بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم، وذلك بسبب خلافات سياسية مع الرئيس جمال عبد الناصر. صدر ضدي حكم بالإعدام، لكنه خُفف لاحقًا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. أمضيت في السجن سبع سنوات، من عام 1967 حتى عام 1974، حيث عايشت فترات صعبة من التحديات الشخصية والسياسية."
وأضاف هريدي: "مع اقتراب موعد حرب أكتوبر، توسط بعض أقارب الرئيس أنور السادات وأصدقائي لإطلاق سراحي، معتبرين أنني قد أكون إضافة مفيدة في التحضير للحرب. قالوا للرئيس السادات: 'إذا كنت تخطط لاتخاذ قرار الحرب، عليك بالإفراج عن جلال الهريدي وأحمد عبدالله.' لكن رد السادات كان صادمًا ومليئًا بالمفارقات، حيث قال عن أحمد عبدالله: 'هذا إخواني ملعون.' أما عني، فقال: 'لو كنت مكان عبد الناصر، لأعدمته في أكبر ميدان عام وأطلقت عليه الرصاص.'"
تكرار مشهد عرابي والخديوي: هل سعى هريدي للإطاحة بحكم عبد الناصر؟
عن تفاصيل الاتهام بالتآمر والتخطيط لقلب نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر، فقد وردت في محضر اجتماع مجلس الوزراء في 27 أغسطس 1967، كما وثقها أرشيف مكتبة الإسكندرية وفي الجزء الخامس من كتاب "وثائق ثورة يوليو" للدكتورة هدى جمال عبد الناصر والصادر عن المكتبة الأكاديمية.
وقال جمال عبد الناصر خلال الجلسة التي جرت في قصر القبة: "في كلامنا بعد العدوان تحدثت إليكم في كل المواضيع، ما عدا موضوع واحد ما كنتش أحب إني أتكلم فيه لكني مضطر النهارده إن أنا أتكلم فيه.. هو موضوع عبد الحكيم. فمن الواجب إنكم تاخدوا صورة ولو مختصرة عن الأحداث اللي حصلت بعد العدوان.. بعد يوم 9 و10 يونيو".
وتابع: "كان عبد الحكيم هو الوحيد اللي أنا قلت له: هاتكلم يوم 9، وإن أنا هامشي، وعلى أساس اللي حصل. وفي الحقيقة يمكن إحنا ما اتفقناش يوم 5، وأنا ما روحتش القيادة يوم 6 ولا يوم 7 ولا يوم 8. ولكن هو إتكلم معايا بالتليفون يوم 6 وقال: إن الوضع انتهى! وإن الجيش مش قادر يصمد، وطلب الانسحاب إلى غرب القنال، وأنا وافقته، ولكن قلت له: أولاً: نستطيع إن إحنا نصمد في الممرات – ممر متلا والممرات التانية – وفيه إيقاف القتال".
ويكمل: "الخلاف اللي حصل يوم 5 إن هو كان في حالة عصبية، وطلب مني إن أنا أطلع بيان عن إن أمريكا هي اللي بتهاجمنا.. هي وإنجلترا، وأنا قلت له: إن أميركا وإنجلترا ما بيهاجموناش، ولا يمكن إن إحنا نطلع بيان بهذا الشكل إلا على أساس إنك تجيب لي حطام طيارة أمريكاني. العدوان إسرائيلي. وسألته في هذا اليوم وقلت له: أنا شايف إنه يبقى فيه نظام جديد، وسألته عن رأيه بيرشح مين لرئاسة الجمهورية، علشان أنا هأعلن إن أنا عينت فلان.. لكن عبد الحكيم رشح شمس بدران!".
وواصل: "قلت له: طيب. وقال: يعني نستقيل. كان تفكيري أنه لم يكن معقولاً إن شمس بدران يتولى العملية، على أساس إن شمس ما عندوش خبرة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنه يقوم بهذا الوضع. ولهذا استقر الوضع على زكريا، وما قولتش لزكريا وما قولتش لحد خالص. ولكن أنا قلت لعبد الحكيم إنه ما يقولش وما يجيبش سيرة بهذا الموضوع لأي حد، ولكن اللي عرفته بعد كده إنه إتكلم مع شمس في هذا الموضوع بعد أنا ما مشيت! أي استقلت".
وتابع: "تاني يوم بعد الظهر – اللي هو يوم 9 – قلت له: إن موضوع شمس ده موضوع غير عملي، وأنا استقر رأيي على زكريا. وبعد هذا إتكلمت في الإذاعة، وفي منتصف الكلام جات لي رسالة منه – جابها لي محمد أحمد – وأنا بأتكلم، وطلب مني إن أنا أوقف البيان ما أكملوش! طبعاً كان لا يمكن.. وحصل ما حصل".
ويستطرد عبد الناصر: "الحقيقة أنا فوجئت فعلاً باللي حصل يوم 9 ويوم 10، كانت العودة يوم 10 بالليل، اتصل بي شمس بدران.. بعد أن أعلن هو والمشير استقالاتهم – وصمموا أن تعلن هذه الاستقالة في الراديو، وأُعلنت في الراديو. وقال لي: إن المشير بيطلب إنك تبت في موقفه دلوقتي، وإنه عنده 500 ضابط في البيت بيطالبوه بالعودة! فأنا قلت له: إن الواحد ما هوش في وضع دلوقتي يبت في هذا الموضوع، ونتكلم بكره، وما فيش داعي تاني إن أنت تكلمني في هذا الموضوع! هذا الموضوع يتكلم فيه المشير شخصياً. قال لي: يعني المشير مشغول! وأنا قلت له: إنك بتطلب إنك تعرف رأيي وده موضوع هأقول لكم عليه بعدين".
ويكمل: "تاني يوم الصبح طلبته ما لاقيتوش، وطلبت شمس ولم يكن موجوداً وما تصورتش إن شمس أبلغ حكيم هذا الكلام! ولكن اللي عرفته بعدين إن شمس أبلغه، وطلبت من الاستخبارات إنها تبحث عنه ويدوروا عليه، وتعرف هو موجود فين! قعدوا فترة لغاية الساعة واحدة وبلغوني إن هو موجود في بيت في الزمالك – اللي هو بيت عصام خليل – وطلبت إنهم يجيبوه فمرضيش! وأنا ما كنتش برضه متصور إن شمس قال له الموضوع، لأني كنت برضه مستغرب إيه الحكاية!".
عريضة الضباط: تفكك داخل الجيش على أثر قرار عبد الحكيم عامر
وطبقًا لمحضر جلسة مجلس الوزراء، فعند الساعة الواحدة تم إبلاغ عبد الناصر بأن هناك عددًا من الضباط موجودون في القيادة – يوم الأحد –.
وبحسب عبد الناصر: "قالوا لي: حوالى 700 ضابط بيطالبوا بعودة عبد الحكيم إلى الجيش! ثم بلغوني إن هؤلاء الضباط راحوا إلى القيادة بناء على إشارات تليفونية، وعرفت مين اللي بعتوا هذه الإشارات. وطلبت فوزي قال لي: إنه حاول أن يصرف الضباط ولم ينصرفوا! الحرس الجمهوري أنا كنت بعته للإسماعيلية، لأن ما كانش فيه جيش خالص، كان في زكريا باعتباره المقاومة الشعبية هو اللي استلم الموضوع، وكان عنده 5 آلاف بندقية".
وواصل: "وبعد كده جه وإدالي أربعة ضباط ممثلين عن الضباط، وجايبين عريضة وماضيين عليها الضباط، ومطالبين: عودة عبد الحكيم عامر إلى القوات المسلحة!".
ويشير عبد الناصر إلى تصرفه وقراره بقوله: "لما لاقيت إن الوضع وصل إلى هذا الحال اتصلت الساعة 2 بالفريق فوزي، وعينته قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وقلت له: إن الفرقاء الأوائل الموجودين كلهم أنا قبلت استقالتهم، والناس اللي جابوا العريضة أنا حولتهم إلى المعاش! وإن الكلام ده هيطلع في نشرة 2:30، وأذيع هذا الكلام في موعده. وطلبت الحرس الجمهوري من الإسماعيلية، واتصلت هنا بالمدرعات، ولاقيت قوة من الدبابات جبتها، واتصلت بالشرطة العسكرية، واتصلت بعدد من الضباط اللي أنا أعرفهم. وقلت لفوزي: إن الضباط اللي عندك أي واحد يفضلوا أنا هابعت أعتقل كل الضباط الموجودين، وتقفل الأبواب، وكل الضباط بعد إذاعة تعيين فوزي قائد عام مشوا".
"وبعدين اتصل بي شمس بدران، وهو اللي كان مسؤول عن الأمن بالنسبة للقوات المسلحة.. السكة اللي مشي فيها بالنسبة للسنين اللي فاتت. قال لي: إن في ناس بيراقبوه ولو كان عاوز يعمل انقلاب يقدر يعمل انقلاب من البيت! وأنا رديت عليه الرد المناسب، ومشي".
في أعقاب التوترات التي شهدتها القوات المسلحة، خرجت قوة من الصاعقة بالسلاح بقيادة حسن خليل تهتف للمشير عبد الحكيم عامر، متجهة من الحلمية إلى مقر القيادة، مرورًا بشارع الخليفة المأمون. لمواجهة هذا التصعيد، أصدرت أوامري بإحالة حسن خليل إلى المعاش واعتقاله، وهو ما تم بالفعل، ولكن القوة عادت واعتصمت في الحلمية.
لاحقًا، ظهرت تحركات مشابهة داخل القوات الجوية، حيث اعتصم بعض الضباط بقيادة إسماعيل لبيب، بالتنسيق مع الجيوشي. تعاملت مع الأمر بحزم، فأحلتهم جميعًا إلى المعاش، وعينت مدكور قائدًا جديدًا للقوات الجوية، حيث تم استدعاؤه من أسوان لتولي المنصب. بحلول المساء، تمكنت من السيطرة على الموقف تمامًا، وأصدرت قرارات بإحالة مجموعة من الضباط المتورطين في هذه التحركات إلى التقاعد.
في المساء، جاء عبد الحكيم عامر لمقابلتي، وبدأ الحديث بمساءلته عن هذه التحركات التي جرت بقيادته أو بتحريض منه. حاول عبد الحكيم التخفيف من خطورة الأمر، قائلاً إن الضباط لم يروا في أفعالهم تصرفًا عدائيًا، بل كانوا فقط يعبرون عن رأيهم ومطالبهم. لكنه لم يدرك أن هذه التصرفات تعد تجاوزًا غير مقبول.
وجاء على لسان عبد الناصر: "قلت له بحزم: يا عبد الحكيم، هل يعقل أن يأتي أربعة ضباط، مثل عثمان نصار وعبد الرحمن فهمي وحمزة البسيوني وعبد الحليم عبد العال، لتقديم عريضة لي؟ هل أنا الخديوي توفيق حتى يتعامل الضباط معي بهذه الطريقة؟! أنا لا أقبل هذا النوع من التصرفات، ولا يمكن السماح بمثل هذه الأفعال في القوات المسلحة".
اعتقال هريدي
ثم عادوا من المنيا.. عرفت إنه في يوم كان متضايق جدًا، وراح وبعض الناس كسروه. هو كان معاه واحد كان بالذات بيعتز به اسمه جلال هريدي، وكان قائد قوات الصاعقة. وأنا رأيي في جلال هريدي كان وحش من أيام سورية، أظن كلكم تعرفوا قال إيه في سورية وإتكلم قال إيه في الراديو؟! إتكلم عليَّ واتكلم عليه هو أيضًا! فأنا قلت لهم: لما بيجي جلال هريدي – وكان في الأردن – فيتعين ملحقًا عسكريًا. ما رضيتش حتى أرفده علشانه، وبيروح إن شاء الله يروح طوكيو أو يروح أي حتة، لأن جلال هريدي بالذات هيكون سبب مشاكل كتيرة ولكن جلال هريدي رفض! وقال: إن الجيش من غير المشير أنا ما اشتغلش فيه! وقال: أنا مستقيل. وقلت لهم: يتحال للمعاش.. واتحال للمعاش. أنا سمعت رواية إن الشخص ده راح قال للمشير: إنهم حققوا معاه وسألوه، وإن كانت حالته يومها تعبانة جدًا.
بعد كده جلال هريدي وكان معاه ناس طبعًا، راحوا قعدوا في بيت عبد الحكيم وأقاموا إقامة دائمة. كان معاه ناس من ضباط الصاعقة، وبعدين زارهم في البيت عدد من ضباط الصاعقة، واجتمعوا مع جلال هريدي وعندما عرفت بهذا الموضوع.. طلعتهم للمعاش واعتقلتهم.