- الكتاب يحكى محطات قاسية فى حياتها مثل الاعتقال السياسى والهجرة
تقدم الكاتبة صافى ناز كاظم فى كتابها «رؤى وذات» تجربة أدبية غنية تبحر بنا فى عمق الذات الإنسانية، هذا العمل الصادر عن دار الشروق يأتى كمرآة تعكس حياة ثقافية وسياسية واجتماعية مرت بها الكاتبة، وتفتح نافذة على تاريخ شخصى واجتماعى امتد لنصف قرن.
يحتوى الكتاب على أربعين فصلاً، موزعة عبر نحو ثلاثمائة صفحة، تتناول خلالها الكاتبة مشاهد من حياتها الخاصة، بدءًا من الطفولة وحتى اللحظات الراهنة، مع لمسات شعرية فتأخذ القارئ فى رحلة بين الذكريات والمكان والزمان، فنراها تبدأ بإهداء خاص لشخصية مؤثرة فى طفولتها، «باباشارو»، الذى يمثل رمزًا للبهجة الأولى فى نشأتها وارتباطها بالثقافة والفن، مما يضفى بعدًا إنسانيًا دافئًا على النص.
تسرد صافى ناز كاظم رحلتها الذاتية عبر أزقة القاهرة، مستحضرة الأماكن التى شكلت وجدانها الثقافى والاجتماعى، مثل خان الخليلى ومقهى نجيب محفوظ، وشارع المعز وباب الفتوح، هذه الأمكنة لا تتوقف عند كونها خلفية للمشاهد، بل تتحول إلى شخصيات حية تحمل فى تفاصيلها تناقضات الحياة وروح المدينة، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يتجول بين الأزقة ويحس بعبق الماضى يتنفس فى الحاضر.
لكن الكتاب لا يكتفى بالسرد الشخصى، بل يتسع ليشمل تحليلات نقدية لعدد من الأدباء الذين تركوا بصماتهم على الساحة الثقافية العربية والعالمية، فتتحدث عن نجيب محفوظ بنظرة ناقدة تتناول مواقفه من المرأة، وتستعرض تجربة فتحى غانم فى ظل التحولات السياسية، كما تعكس رؤى نقدية لشخصيات أدبية أخرى مثل يوسف السباعى، محمود درويش، إرنست همنغواى، مريد البرغوثى، وأحمد فؤاد نجم، كل هذه القراءات النقدية تضيف عمقا للعمل، وتكشف عن شخصية كاتبة شجاعة لا تخشى التعبير عن وجهات نظرها.
علاوة على ذلك، تنسج الكاتبة علاقات قوية بين المذكرات الشخصية وحواراتها مع شخصيات أدبية وصحفية، حيث تسرد لقاءاتها وتفاعلاتها مع هؤلاء، مما يمنح القارئ فرصة للتعرف على كواليس الصحافة والأدب، ويبرز صوتها كصحفية تتمتع بجرأة وصدق.
لا يغيب عن النص الوصف الحى لمدينة القاهرة التى تمثل بالنسبة لها أكثر من مجرد مكان، بل هى كيان ينبض بالحياة والذكريات، فتصف أزقتها الضيقة ومقاهيها ومكتباتها التى احتضنت الثقافة، مستحضرة أجواء الستينيات والسبعينيات التى كانت مليئة بالحيوية والشغف، لتجعل القارئ يعيش تلك الحقبة بكل تفاصيلها العاطفية والاجتماعية.
تكشف صافى ناز كاظم كذلك عن محطات صعبة فى حياتها، مثل الاعتقال السياسى الذى شكل منعطفا حاسما، وتجربة الهجرة إلى العراق، حيث عملت فى مجال الدراما وكتبت عن غربة فرضتها ظروف الحياة، فى كتاب «يوميات بغداد» الذى يمثل سجلاً إنسانيا وسياسيا عميقا، هذه التجارب الشخصية تغنى الكتاب بعدا إنسانيا يمنح النص صدقية وقوة عاطفية.
بالإضافة إلى ذلك، تشارك الكاتبة تفاصيل من علاقاتها الشخصية مع عدد من الشخصيات الثقافية البارزة، مثل علاقتها مع لطيفة الزيات فى الجامعة، وأحاديثها مع نجيب محفوظ، ولقاءاتها مع الشاعر أمل دنقل، حيث يتجلى حبها العميق للشعر والفكر، وارتباطها بالكتابة كجزء من حياتها وتعبير عن ذاتها.
يتميز «رؤى وذات» بالصدق العاطفى والفكرى؛ حيث يأخذ القارئ فى رحلة تبدأ من فضاء السيرة الذاتية لتصل إلى فضاءات النقد الأدبى والتأمل فى المكان والإنسان، ليكون العمل تحفة أدبية ويبرز صوت كاتبة لها حضور مميز فى الأدب العربى الحديث.
باختصار، يقدم الكتاب شهادة صادقة وثرية عن كاتبة خاضت معارك الحياة بقلمها، متجاوزة حدود السرد التقليدى لتقدم رؤية متكاملة تعبر عن نصف قرن من الألم والوعى، بتوازن يجمع بين الرقة والحدة، وبين الشغف والواقعية، ليكون بذلك إضافة قيمة للمكتبة العربية الحديثة.