"تولستوي" الأديب الذي عبر حدود روسيا ليشكل ملامح الثقافة الغربية
"تولستوي" في عيون الغرب: كيف ألهم المهاتما غاندي.. ومارتن لوثر كينج..والجامعات الأوروبية والأمريكية
عشق كتاباته برنارد شو.. وأشاد به جورج أورويل وفيرجينا وولف
وصفه الألماني توماس مان الحائز على نوبل بـ "كاتب الطبيعة الإنسانية" لجمعه بين عبقرية الراوي وفلسفة المفكر
تحل اليوم، 9 سبتمبر، ذكرى ميلاد الكاتب والفيلسوف الروسي، ليف نيكولايفيتش تولستوي، المعروف عالميًا باسم ليو تولستوي، وهو يعتبر أحد أعمدة الأدب العالمي، وواحدًا من أبرز روائيي القرن التاسع عشر، الذي امتد تأثيره من صفحات الأدب الروسي إلى الفلسفة والأفكار الاجتماعية، وصولًا إلى حركات التحرر والسلمية في جميع أنحاء العالم.
ووُلد "تولستوي" عام 1828 في ضيعة عائلته ياسنايا بوليانا بمقاطعة تولا في روسيا لأسرة أرستقراطية، وقد فقد والديه في طفولته وتربى بين أقاربه، ثم التحق بجامعة "قازان" لدراسة اللغات الشرقية ثم القانون، لكنه لم يكمل دراسته، وقرر أن يعود إلى ضيعته ليبدأ رحلة البحث عن معنى للحياة من خلال الكتابة.
وكانت باكورة أعماله عبارة عن ثلاثية شبه ذاتية؛ ألا وهي: "الطفولة" التي صدرت عام 1852، و"الصبا" التي صدرت عام 1854، و"الشباب" التي صدرت عام 1856، وقد مهدت الطريق لقلمه الأدبي الخاص المميز الذي عهدناه في أعماله اللاحقة الأكثر نضجًا ورسوخًا في عالم الأدب.
الحرب والسلام… ملحمة الإنسانية
ونشر "تولستوي" عمله الأضخم والأكثر تأثيرًا وشهرة بين أعماله "الحرب والسلام" عام 1869 الذي استغرق منه سنوات طويلة من البحث والكتابة، وهو عبارة عن ملحمة تاريخية فلسفية روائية تناولت غزو نابليون لروسيا عام 1812، وامتدت عبر قصص عدة أجيال لعائلات روسية متشابكة، وقد اعتُبرت تلك الرواية علامة فارقة في الأدب العالمي، لتصويرها العميق للتاريخ، والإنسان، والقدر، والحرية.
آنا كارينينا… تراجيديا الحب والمجتمع
ونشر "تولستوي" بعد ذلك بسنوات روايته الشهيرة "آنا كارينينا" الصادرة عام 1877، والتي اعتبرها كثيرون أعظم رواية واقعية كتبت على الإطلاق؛ حيث تناولت الرواية مأساة "آنا"، المرأة التي واجهت قسوة المجتمع الروسي بعد سقوطها في حب ممنوع، فكانت قصة عن الصراع بين التقاليد والحرية الفردية، وعن مصير الإنسان بين الحب والواجب.
القيامة وأعمال النضج الفكري
ومع نهاية القرن التاسع عشر، اتجه "تولستوي" أكثر نحو الأدب الفلسفي والديني، فأصدر رواية "القيامة" عام 1899، التي تناولت نقدًا حادًا للفساد الاجتماعي والكنيسة والنظام القضائي الروسي، كما كتب أعمالًا قصيرة ذات صدى عالمي مثل "موت إيفان إيليتش" عام 1886، و"الحاج مراد" التي صدرت بعد وفاته عام 1912، وكلها أظهرت تأملاته في الموت والمعاناة والعدالة.
ولم يكن "تولستوي" مجرد روائي عادي؛ بل تحول في أواخر حياته إلى مفكر اجتماعي وديني؛ حيث دعا إلى مبادىء البساطة والزهد، وانتقد الملكية الخاصة والحروب والكنيسة الرسمية، وكانت أهم أفكاره ممارسة "اللاعنف" أو"مقاومة الشر بلا عنف"
وتُرجمت أعمال "تولستوي" إلى معظم لغات العالم، وتحولت رواياته إلى أفلام ومسرحيات وأعمال فنية كبرى، وقد أثرت أفكاره في الفلسفة الحديثة والحركات الإصلاحية والاجتماعية. وحتى اليوم، تطالعنا كتابات "تولستوي" التي تقف شاهدة على مكانة صاحبها كأديب واقعي، ومفكر جريء، وصوت إنساني خالد في تاريخ الأدب والثقافة العالمية على حد سواء.
ولم يكن تأثير ليو تولستوي مقتصرًا على الأدب الروسي وحده، بل امتد ليشمل الثقافة الغربية في جوانب متعددة؛ نذكر منها: الأدب والفكر الفلسفي، والحركات الاجتماعية والسياسية، و المسرح والسينما، والفلسفة الغربية الحديثة.
وتُرجمت أعماله إلى معظم اللغات الأوروبية منذ أواخر القرن التاسع عشر، فأصبح حضور "تولستوي" راسخًا في الجامعات الغربية والمكتبات الكبرى، كما ألهمت رواياته كبار الروائيين الغربيين؛ مثل: توماس مان في ألمانيا ومارسيل بروست في فرنسا، الذين رأوا فيه نموذجًا للكاتب الفيلسوف، وشكلت فلسفته الأخلاقية - خاصة في كتاباته المتأخرة مثل "مملكة الله في داخلك" - أساسًا لأفكار جديدة حول العدالة الاجتماعية واللاعنف.
وعلى صعيد الحركات الاجتماعية والسياسية، وجدت أفكاره عن المقاومة السلمية صدى قويًا في الغرب، وألهمت القادة العالميين؛ فتأثر بها على سبيل المثال المهاتما غاندي في الهند، ومنه انتقلت لاحقًا إلى الغرب لتلهم الناشط السياسي الحقوقي الأسمر وأيقونة النضال من أجل الحرية، مارتن لوثر كينج الابن، في حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة.
كما استندت كثير من الحركات الإصلاحية والاشتراكية المسيحية في أوروبا إلى نقد "تولستوي" للمؤسسة الكنسية وللسلطة السياسية.
وعلى صعيد المسرح والسينما، تحولت أعماله إلى أفلام عالمية؛ حيث قامت هوليوود بإنتاج نسخ عديدة من "آنا كارينينا"، وجسدتها على الشاشة العديد من الأسماء اللامعة؛ على غرار الممثلة الأمريكية السويدية، جريتا جاربو، والبريطانيتين، فيفيان لي، وكيرا نايتلي.
و تحولت رواية "الحرب والسلام" إلى فيلم ملحمي ضخم في هوليوود عام 1956، من بطولة الممثلة البريطانية، أودري هيبورن، والممثل الأمريكي، هنري فوندا، و أنتج الاتحاد السوفيتي نسخة سينمائية اعتُبرت الأضخم في تاريخ السينما الروسية، كما اقتُبست نصوصه وأفكاره في مسرحيات وأعمال درامية في المسرح الغربي ناقشت قضايا الأخلاق، والعدالة، والحرية الفردية.
أما على صعيد الفلسفة الغربية الحديثة، فقد دخل "تولستوي" النقاشات الفلسفية الغربية من خلال نقده للحداثة، فكان له تأثير كبير على فلاسفة كبار؛ مثل البريطاني، بيرتراند راسل، الذي أشاد بعمقه الأخلاقي، كما ألهم طرحه لمفهوم العودة إلى البساطة والطبيعة الحركات البيئية والفكر الرومانسي الجديد في أوروبا وأمريكا.
تولستوي في عيون الكتّاب والمفكرين الغربيين
رأت الكاتبة البريطانية، فيرجينيا وولف ، في رواياته عمقًا نفسيًا استثنائيًا، وقالت إن قراءة "تولستوي" تُشبه "الانغماس في بحر من الحياة"، وأشادت بقدرته على رسم التفاصيل الدقيقة لعالم الشخصيات الداخلية والخارجية.
وكتب الكاتب الإنجليزي، جورج أورويل، مقالة شهيرة بعنوان "لير، تولستوي ، والملك الأحمق" عام 1947، تناول فيها فلسفة "تولستوي" الأخلاقية وانتقد بعض مواقفه من الأدب الغربي، لكنه أقرّ بأنه واحد من أعظم الروائيين الذين عرفهم التاريخ.
أما الأديب الألماني، توماس مان، الحائز على نوبل في الأدب، وصف "تولستوي" بأنه "كاتب الطبيعة الإنسانية" الذي جمع بين عبقرية الراوي وفلسفة المفكر.
واعترف الكاتب الأمريكي، هنري جيمس - رغم اختلاف أسلوبه الأدبي - بجاذبية "تولستوي"، واعتبره صاحب "قوة ميتافيزيقية" في تصوير الحياة اليومية.
وأطلق عليه الناقد الإنجليزي، ماثيو أرنولد ، لقب "أكبر كاتب ملحمي" بعد قراءته لـ الحرب والسلام.
وكان المؤلف الأيرلندي، برنارد شو ، مفتونًا بأفكاره الأخلاقية والاجتماعية، ورأى فيه صوتًا يتجاوز الأدب ليصبح معلمًا أخلاقيًا للبشرية.
التأثير الأكاديمي والفكري
وفي الجامعات الأوروبية والأمريكية، أصبح "تولستوي" موضوعًا للعديد من البحوث الفلسفية والأدبية منذ أوائل القرن العشرين، واستلهم المفكرون المسيحيون في الغرب انتقاداته للكنيسة الرسمية، مما غذّى تيارات "المسيحية الاجتماعية"، كما قدم بعض الباحثين الأمريكيين، مثل إرنست سيمونز، دراسات كبرى عن "تولستوي" في القرن العشرين، ظلت مراجع أساسية في الأدب المقارن.
وفي الختام، وجب التنويه أن "تولستوي" لم يكن كاتبًا روسيًا فحسب؛ بل جسرًا فكريًا وثقافيًا وصل روسيا بالغرب، وظل حاضرًا في الأدب والسينما والفكر الاجتماعي والسياسي حتى اليوم، وقد توفي في 20 نوفمبر 1910 مخلفًا وراءه تراثًا أدبيًا وفلسفيًا سيظل حاضرًا في ذاكرة البشرية.