في 9 أكتوبر من كل عام، تحل ذكرى رحيل الطبيب الأرجنتيني، إرنستو تشي جيفارا، الذي صار رمزًا عالميًا للثورة، وصورة خالدة تُرفع على الجدران وتُطبع فوق القمصان خلال المظاهرات حول العالم حتى يومنا هذا برغم مرور أكثر من نصف قرن على إعدامه في قرية "لا هيجيرا" البوليفية عام 1967.
وُلد "جيفارا" عام 1928 في مدينة روزاريو بالأرجنتين، لأسرة من الطبقة الوسطى تؤمن بالثقافة والقراءة، وقد عانى منذ طفولته من مرض الربو، لكنه كان شغوفًا بالمعرفة، حيث كان يمضي ساعات طويلة بين الكتب التي شكّلت وعيه المبكر بقضايا العدالة والمساواة.
وبعد تخرجه في كلية الطب بجامعة بوينس آيرس، قرر خوض رحلة عبر القارة اللاتينية مع صديقه، ألبرتو جراندو، موثقًا تلك الرحلة في مذكراته الشهيرة «مذكرات رحلة بالدراجة النارية»، وقد رأى بعينيه خلال الرحلة الفقر المدقع والاستغلال الذي تعانيه شعوب القارة على الطرق الممتدة بين تشيلي وبيرو وفنزويلا، فترسخ في داخله اقتناع بأن جذور تلك الأمراض ليست جسدية بل سياسية واجتماعية.
وقد ذكرت مجلة "ذا سبيكتاتور" البريطانية أن تلك الرحلة كانت نقطة تحوّل في تاريخه جعلته يرى أمريكا اللاتينية كوطن واحد يحتاج إلى ثورة ضد القهر والاستعمار الجديد.
وحين التقى زعيم الثورة الكوبية، فيدل كاسترو ، في المكسيك منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وجد فيه الحليف الذي يشاركه الرؤية ذاتها؛ فانضم إلى حركة "26 يوليو" التي قادت الثورة الكوبية ضد نظام الدكتاتور الكوبي، فولجينسيو باتيستا، وترقّى بسرعة داخل صفوفها بفضل قدراته التنظيمية وحضوره الكاريزمي المعروف عنه.
وشارك "جيفارا" في المعارك التي انتهت بسقوط عاصمة كوبا (هافانا) عام 1959، ثم تولى مناصب مهمة في الحكومة الثورية، أبرزها وزارة الصناعة ورئاسة البنك الوطني، وفي تلك المرحلة كتب نصوصه النظرية حول مفهوم "الإنسان الجديد" الذي يعمل بدافع الواجب الثوري لا المصلحة الفردية.
ولم يكن "جيفارا" رجلًا مكتفيًا بالسلطة؛ فقد ترك كوبا عام 1965، مدفوعًا برغبته في إشعال ثورات جديدة ضد الإمبريالية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحاول خوض نفس التجربة في الكونغو ثم انتقل إلى بوليفيا، حيث سعى إلى تكرار النموذج الكوبي وسط الفقراء والمهمشين هناك.
بيد أن مهمته فشلت بسبب غياب الدعم الشعبي وحصار القوات البوليفية له، بمساعدة من وكالة الاستخبارات الأميركية CIA كما كشفت وثائق أرشيف الأمن القومي الأمريكي، وفي التاسع من أكتوبر 1967 أُعدم رميًا بالرصاص في مدرسة صغيرة بقرية "لا هيجيرا" في لحظة وثّقها التاريخ بوصفها نهاية الإنسان وبداية الأسطورة.
وتحوّل جسده الملقى على طاولة المدرسة إلى ما يشبه المشهد المسيحي الرمزي، بحسب وصف مراسلي الصحافة الذين حضروا آنذاك، وانتشرت صورته لتصنع منه أيقونة تمرد عالمية، وقد أعيد اكتشاف رفاته عام 1997، ونُقلت إلى كوبا حيث دُفن في سانتا كلارا في جنازة مهيبة، ومنذ ذلك الوقت أصبح ضريحه مزارًا وطنياً يزوره آلاف الكوبيين سنويًا، وتُحيى ذكراه في احتفالات رسمية.
أما فكر "جيفارا"، فقد ظل موضع نقاش حاد بين مؤيديه وخصومه؛ ففي كتاب الصحفي الفرنسي، جاك بوبو ، بعنوان «الوجه الآخر لتشي»، قدم المؤلف "جيفارا" بصورة مختلفة عن الأسطورة المثالية؛ حيث قدمه كقائد ثوري لم يخلو من التناقضات خلط بين الحلم الثوري والممارسات الصارمة التي صاحبت مرحلة تثبيت الثورة في كوبا، وفي المقابل، رأى فيه آخرون رمزًا للالتزام الأخلاقي الكامل بقضية العدالة، حتى وإن فشل في تحقيقها سياسيًا؛ فلقد آمن "جيفارا" بأن الثورة ليست لحظة انفجار بل عملية مستمرة لتطهير الإنسان من أنانيته، وهي الفكرة التي جعلته يتجاوز حدود الجغرافيا ليصبح رمزًا عالميًا.
ولم يكن تشي جيفارا ثائرًا ميدانيًا فحسب، بل كان أيضًا صاحب قلم ووعي فلسفي عميق، وقد ترك لنا مؤلفات شكلت جوهر فكره الاشتراكي الإنساني؛ في كتابه الشهير «حرب العصابات» الصادر عام 1961، قدّم "جيفارا" تصورًا نظريًا متكاملًا لكيفية تنظيم الثورة المسلحة، محددًا دور الفدائي، وبنية العناصر القتالية، والعلاقة بين الشعب والمقاتل، ومن ثمّ لم يكن ذلك الكتاب مجرد دليل عسكري، بل بيانًا سياسيًا يُعلي من شأن التضحية والالتزام الأخلاقي بالتحرر، حتى صار مرجعًا أساسيًا للحركات الثورية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا طوال الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
أما في كتابه «ذكريات حرب العصابات الكوبية» الذي نشر عام 1963، فقد دوّن شهادته الشخصية عن الثورة الكوبية، مستعرضًا تفاصيل المعارك التي خاضها وملامح التحول الإنساني الذي عاشه المقاتلون، ومن خلال هذه الصفحات أضفى على التجربة الثورية بُعدًا إنسانيًا يتجاوز السلاح إلى الإيمان بالقضية.
أما على الصعيد الفكري، فقد بلور "جيفارا" رؤيته الأيديولوجية في كتب مثل «الاشتراكية والإنسان في كوبا»؛ حيث دعا إلى تكوين ما سماه “الإنسان الجديد” الذي يتحرر من الأنانية ليكرّس ذاته من أجل الجماعة، وكتب أيضًا «يوميات بوليفيا» الذي وثّق فيه أيامه الأخيرة قبل مقتله عام 1967، والذي تحول إلى سجل مؤلم عن صموده ووحدته وحلمه الذي لم يكتمل، غير أن البذرة الأولى لفكره ظهرت في «مذكرات رحلة بالدراجة النارية» التي كتبها بعد رحلته عبر القارة اللاتينية في مطلع الخمسينات، وفيها نلمح ولادة الوعي الاجتماعي لدى الطبيب الشاب الذي رأى الفقر فقرر أن يغيّر العالم.
واليوم، وبعد مرور ثمانية وخمسين عامًا على رحيله، ما زال تشي جيفارا حيًا في الذاكرة الجمعية للثوار والحالمين بالتغيير، وصارت صورته التي التقطها المصوّر ، ألبرتو كوردا ، واحدة من أشهر الصور في التاريخ؛ حيث تجاوزت معناها السياسي لتصبح لغة بصرية عالمية للرفض والتمرد.
وبرغم من أن البعض يرى أن الأسطورة التي خلقها الثوار من "جيفارا" طغت على حقيقته، إلا أن إرثه يبقى شاهدًا على مفارقة الثورة ذاتها؛ الحلم النقي الذي يتبدد حين يواجه تعقيدات الواقع.