احتفلت سلسلة "أرواح في المدينة" بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، مساء الجمعة، وذلك في أمسية استضافها المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية.
وحضر الأمسية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، والمخرجة إنعام محمد علي، والمصور سعيد شيمي، والكاتب الصحفي محمد هاني، واللواء معتز الشرقاوي، أحد أبطال حرب الاستنزاف، والعميد سامح، وإبراهيم الرفاعي وشقيقته ليلى، أبناء البطل الشهيد إبراهيم الرفاعي.
وركزت النقاشات والأجواء على السنوات الصعبة التي سبقت حرب أكتوبر، وكيف نسج المصريون خلالها خيوط الصبر التي مهّدت لطريق النصر.
واتخذ اللقاء من الفن مدخلًا لقراءة تلك المرحلة الحاسمة في التاريخ المصري الحديث، من خلال عرض مشاهد من الفيلمين الخالدين "حكايات الغريب" و"الطريق إلى إيلات"، اللذين وثّقا بطولات المصريين في مواجهة العدوان وتجسيد إرادة العبور.
* لماذا غاب الحضور الشعبي عن جنازة السادات؟
وبدأ الكاتب الصحفي محمود التميمي، حديثه باستعادة ذكرى يوم 10 أكتوبر، اليوم الذي شهد تشييع الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981، في جنازة اتسمت بطابع رسمي غاب عنها الحضور الشعبي الحاشد، على خلاف ما شهدته مصر في وداع الزعيم جمال عبد الناصر، حين خرجت الملايين من مختلف أنحاء البلاد في مشهد غير مسبوق.
وأشار "التميمي"، إلى أن هذا التباين دفع كثيرين آنذاك إلى المقارنة بين الجنازتين، قائلين: "كيف تكون جنازة المهزوم جماهيرية، وجنازة المنتصر باردة؟ وهي المقارنة التي رأى فيها ظلمًا للرجلين، وللسياقين المختلفين اللذين أحاطا بكلٍّ منهما".
وقال إن المقولة العربية الشهيرة "بيننا وبينكم الجنائز"، تبدو قولًا ظالمًا حين تُستدعى للمقارنة بين الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، فكلٌّ منهما أدّى دوره في مرحلة دقيقة من عمر الوطن، ولكلٍّ منهما مكانه في الذاكرة المصرية، مضيفًا أن السادات بصفته بطل العبور وصاحب قرار الحرب والسلام، لا يجوز أن يُختزل في ثنائية جنازة المنتصر وجنازة المهزوم.
وأوضح أن حضور مناحم بيجن وشارون وشامير، بجانب الرئيسين الأمريكيين جيمي كارتر وجيرالد فورد، يعطي تفسيرًا واضحًا للغياب الشعبي، في وقت كان الغضب الشعبي تجاه الاحتلال الإسرائيلي ما يزال ساخنًا، وكذلك الولايات المتحدة، فلم تنس الآذان حينها صوت عبد الحليم حافظ وهو يغني: ما فيش مكان للأمريكان بين الديار.
* وزير الثقافة يشيد بـ"أرواح في المدينة"
وخلال الأمسية، هنأ وزير الثقافة الكاتب الصحفي محمود التميمي، مؤسس المشروع وصاحب فكرته، بمناسبة عيد ميلاده، معربًا عن تقديره للجهد الكبير الذي يبذله المشروع في توثيق ملامح الذاكرة المصرية وإحياء رموزها الثقافية والفنية، مشيدًا بدوره في ربط الأجيال بتاريخها الوطني من خلال الفن والوثيقة والذاكرة الجماعية.
كما وجّه الوزير، الشكر للمخرجة الكبيرة إنعام محمد علي، تقديرًا لعطائها البارز في توثيق بطولات حرب أكتوبر عبر أعمالها السينمائية والدرامية التي أصبحت جزءًا من الوجدان الوطني، مؤكدًا أن أعمالها مثل "الطريق إلى إيلات" و"حكايات الغريب" تظل علامات خالدة في سجل السينما المصرية.
* معرض غنائم الحرب.. بقايا سلاح الاحتلال لعبة في يد الأطفال
وعرض الكاتب الصحفي محمود التميمي، صورًا ومشاهد لمعرض غنائم حرب أكتوبر، والذي افتتح بعد نحو شهرين من الانتصار العظيم، وللمصادفة أقيم على أرض الجزيرة التي بُنيت عليها لاحقًا دار الأوبرا المصرية التي تشهدها الأمسية.
وبيّنت اللقطات عددًا كبيرًا من الأسلحة والمعدات الإسرائيلية التي نُقلت- في ما يشبه المعجزة- من سيناء إلى قلب القاهرة، لتقف شاهدًا حيًا على انتصار الإرادة المصرية.
وجرى صهر أجزاء من تلك الأسلحة والطائرات وصياغتها في هيئة ميداليات، تحولت- بعد أن كانت مصدر التهديد وآلة قتل- إلى لعب في أيدي الأطفال، رمزًا ملهمًا للصمود وتخليدًا لذكرى النصر.
فيما أكد التميمي، أن العبور لم يكن حدثًا وُلد في لحظة، بل كان ثمرةَ سنواتٍ من الإعداد والإرادة الصلبة، على خلاف ما يُصوّر البعض من أن عهد عبد الناصر هو الهزيمة، فبعد أيامٍ قليلة من نكسة يونيو، انطلقت عمليات نوعية استهدفت العمق الإسرائيلي، وحرص عبد الناصر على الوجود بين جنوده في الجبهة شدًّا لأزرهم ورفعًا لروحهم المعنوية.
فيما شهدت تلك السنوات بطولاتٍ خالدة مثل معركة رأس العش وعمليات تدمير ميناء إيلات، كما تعود فكرة تدمير خط بارليف إلى المهندس المصري باقي زكي يوسف، الذي استلهمها من خبرته في مشروع السد العالي، لتتحول لاحقًا إلى أحد مفاتيح النصر في حرب أكتوبر.
* حائط الصواريخ.. ناصر يمهّد النصر
استعاد التميمي، في حديثه أجواء ما بعد النكسة، مؤكدًا أن عبقرية القوات المسلحة المصرية لم تولد فجأة عشية أكتوبر، بل تشكّلت ملامحها الأولى في ظل مشروع إعادة البناء الذي قاده الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو.
وقال التميمي: "أنا لا أتحدث هنا دفاعًا وحبًّا لعبد الناصر، بل إنصافًا للتاريخ، فعندما رحل الرجل في 28 سبتمبر 1970، كانت خطط عبور القناة قد بدأت فعليًا، وكانت هناك تجارب ميدانية موثّقة لفتح الساتر الترابي باستخدام مضخات المياه- وهي الفكرة التي ابتكرها المهندس باقي زكي يوسف، وسُجلت في أفلام الشؤون المعنوية للقوات المسلحة قبل عام 1971".
وأشار إلى أن أحد المفاصل الحاسمة في تلك المرحلة كان بناء حائط الصواريخ، قائلًا: "عبد الناصر وافق على مبادرة روجرز لا بدافع استسلام وتراجع، بل لكسب الوقت لبناء حائط الصواريخ، بقيادة الفريق محمد علي فهمي، وخلال تلك الفترة، تساقط شهداء من المهندسين المدنيين الذين أعادوا تشييد القواعد الدفاعية كل ليلة بعد قصفها صباحًا، هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين مهّدوا لعبور النصر".
وأضاف أن اكتمال الحائط مثّل لحظة تحوّل كبرى في ميزان القوة، إذ قطع الذراع الطولى لإسرائيل في السماء، وجعل القاهرة والمدن الأمامية عصيّة على الغارات الجوية لأول مرة منذ 1967.
وتابع: "أقامت الجاليات العربية في نيويورك جنازات شعبية لوداع عبد الناصر في اليوم التالي لرحيله".
* حكايات الغريب:
في الفيلم الذي كتب له السيناريو محمد حلمي هلال وأخرجته المخرجة الكبيرة إنعام محمد علي، ووضع موسيقاه التصويرية الموسيقار ياسر عبد الرحمن، يجسّد الفنان محمود الجندي شخصية الجندي عبد الرحمن محمود عبد الرحمن، سائق عربة التوزيع في مؤسسة صحفية، الذي يدخل مدينة السويس في أكتوبر 1973 أثناء الحصار، ليصبح في عداد المفقودين، دون أن تملك الحكومة أي سجل رسمي عنه.
وتستند قصة الفيلم "حكايات الغريب" إلى واقعة حقيقية مستوحاة من سيرة سائقٍ بمؤسسة صحفية يُدعى عبد العزيز محمود، استُشهد خلال فترة حصار السويس.
ووثّق الكاتب الكبير جمال الغيطاني تفاصيل قصته حين كان مراسلًا حربيًا ما بين عامي 1969 و1973، فحوّلها لاحقًا إلى شهادة أدبية تنبض بروح المقاومة وصمود المدينة الباسلة.
وتضمّن الفيلم مجموعة من الأغاني التي أدّاها الفنان محمد منير، وجاءت لتعبّر بصدق عن الروح المصرية في لحظات الصمود والتحدي، حيث مزجت بين الشجن والإصرار والأمل.
وأشار محمود التميمي، إلى إحدى تلك الأغنيات التي بقيت حاضرة في الذاكرة، حين يقول منير في كلماتها: "فُقرا صحيح.. لكن ما احناش قِلّة"، موضحًا أن هذه العبارة وحدها تختصر فلسفة المصري في مواجهة الشدائد؛ الفقر موجود، لكن الكبرياء لا يُمس، والكرامة لا تُساوَم.
واختُتمت الأمسية بباقة من الأغاني الوطنية التي قدّمها المطرب أحمد علي سليمان، وسط تفاعلٍ كبير من الحضور الذين شاركوه الغناء والتصفيق.