حمدى أبو جليل، الذى رحل عنا فى مثل هذه الأيام، قامة أدبية بارزة فى المشهد الروائى المصرى والعربى، وكان واحدًا من أهم الأصوات الروائية فى جيل التسعينيات. فمنذ كتب مجموعته القصصية الأولى «أسراب النمل» فى عام 1997، وحتى نهاية مسيرته فى 2023، حظيت تجربته باهتمام كبير بين القراء والنقاد والمترجمين؛ حيث استطاع صياغة أفكاره ضمن عوالم روائية تتسم بالسخرية الواضحة، مستخدمًا فى ذلك أساليب سردية جديدة. كما اهتم بتطوير لغة تعكس عالمه الروائى، فابتكر أسلوبًا يجمع بين العامية البدوية والفصحى.
لم تكن مسيرة أبو جليل مجرد رحلة إبداعية عادية، بل كانت حافلة بالإنجازات والتقدير. ففى عام 2000، نالت مجموعته القصصية «أشياء مطوية بعناية فائقة» جائزة الإبداع العربى، وبعد ذلك بعامين، ترسخ اسمه بفضل نجاح روايته الأولى «لصوص متقاعدون» التى ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وعندما صدرت روايته «الفاعل» والتى تضمنت تجربته الذاتية كعامل بناء، فازت بجائزة نجيب محفوظ المرموقة من الجامعة الأمريكية.
تميز أسلوب أبو جليل بحساسية فريدة، وكانت مؤلفاته شديدة الارتباط بالذات، حيث تناولت بواقعية تناقضات الحياة اليومية وسلوكيات الفئات المهمشة. فهو كما وصفه الدكتور محمد البدوى فى التقديم لرواية «ديك أمى»، الكاتب الذى آمن بقوة الضعف البشرى كمحرك للتفاعل مع الحياة وتجاوز آلامها.
فى رواية «ديك أمى» الصادرة عن دار الشروق، يروى أبو جليل حكاية أمه ببراعة حكّاء فطرى صقلته السنون، جاعلاً منها أيقونة للمرأة القوية ذات البصيرة النافذة، ونسج خيوط قصتها بأسلوب يلامس الروح، فهو لا يكتفى بسرد حياة امرأة عادية، بل رسم لوحة لأمٍ أسطورية، تجسد قوة الإرادة والجَسارة فى مواجهة قسوة الحياة.
تبنى أبو جليل خلال صفحات الرواية رؤية متفردة فى تناول شخصية الأم، التى امتلكت القدرة على تغيير واقعها المبعثر، وجمع شظايا عالمها الخاص الذى كان على وشك التلاشى، فهى لم تستسلم لواقعها، بل كانت ذات ذكاء وحنكة وشجاعة، تتشاجر مع زوجها للحفاظ على الأراضى الزراعية من بيعها، ضامنةً بذلك مستقبل أبنائها.
وبعد وفاة زوجها، تتحول إلى امرأة عصامية مكافحة، تكرس حياتها لأبنائها، وتصون فدان أرضها بحكمة وفطنة من أطماع الرجال الذين رأوا فيها هدفًا سهلًا لكونها امرأة. لم تخشَ كسر المألوف، فكانت رائدة التغيير الاجتماعى فى قريتها، حيث بدأت بنفسها فى النزول إلى السوق للبيع والشراء، لتشجع بذلك نساء أخريات بدأن بالمطلقات والأرامل ومن لا عائل لهن على اقتحام هذا المجال، حتى صار أمرًا طبيعيًا فى مجتمعها.
تأتى صفحات الرواية أشبه بومضات تلقى الضوء على تأثير البيئة البدوية فى تشكيل وعى الراوى وأمه، حيث تتشابك السيرة الذاتية بالخيال فتظهر عبقرية المؤلف على تحويل تفاصيل الحياة الشاقة إلى متعة وعمل إبداعى. كما أنها تكشف نظرته الفلسفية للحياة، وكيف يمكن للإنسان أن يجد الجمال فى صميم المعاناة.