حولت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مختلف المجالات التحدي الذي تمثله الصين من نقطة تلاق واتفاق بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، إلى نقطة خلاف محتملة بين جانبي المحيط الأطلسي.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية قالت فالبونا زينيلي الزميلة الباحثة غير المقيمة في مركز أوروبا ومركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن بالمجلس الأطلسي وزولتان فيير أستاذ الدبلوماسية والجيوستراتيجية والزميل الباحث غير المقيم في مركز الصين العالمي بالمجلس الأطلسي إن طموحات الصين العالمية تمثل تحديات استراتيجية لكلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يفرض الحاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة بينهما للتعامل مع الملف الصيني.
وأضاف الباحثان أنهما زارا بروكسل وباريس مؤخرا وتحدثا مع صناع سياسات وخبراء وقادة أعمال أوروبيين، أوضحوا لهما أنه في ضوء الخلاف الجديد عبر الأطلسي بشأن الرسوم الجمركية وقضايا أخرى، يتزايد قلقهم من أن تكون الولايات المتحدة قد بدأت إدارة ظهرها لأوروبا، لذلك يفكر الكثيرون من الأوروبيين في التقارب مع الصين.
وفي تحليلهما حدد فالبونا زينيلي وزولتان فيير أربعة اتجاهات جيوسياسية أوسع نطاقًا شكلت السياسات الأوروبية تجاه الصين في السنوات الأخيرة. وستستمر هذه الاتجاهات في التأثير على كيفية تطورها في الأشهر والسنوات القادمة.
أول هذه الاتجاهات هو شعور الأوروبيين بشكل متزايد بأنهم عالقون في خضم المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة بسرعة بين الولايات المتحدة والصين. وقد أدت صرامة موقف الصين العالمي وطموحها لإعادة تشكيل النظام الدولي إلى تعميق التوترات بين بكين وواشنطن، مما دفع واشنطن إلى التحول من السعي إلى الانخراط والتواصل مع الصين، إلى المحافظة على حالة التوازن الاستراتيجي في وقت مبكر من عام 2017 أي في ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى، وهو ما حافظت عليه بدرجة كبيرة إدارة خليفته الرئيس السابق جو بايدن حيث أصبحت الصين في قلب الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة.
وعلى الرغم من اختلاف نبرة الرئيس بايدن وتركيزه على التنسيق مع الحلفاء، حافظ على عناصر أساسية في استراتيجية ترامب تجاه الصين، مثل القيود التجارية، والحد من تصدير التكنولوجيا الأمريكية ومواصلة الجهود السياسية والعسكرية لمواجهة النفوذ العالمي للصين وجاءت إدارة ترامب الثانية، لتنتهج مسارا أكثر تصادمية، مع تركيز واضح على الانفصال الاقتصادي وتصعيد حاد للرسوم الجمركية حيث فرض رسوم جمركية بنسبة 145% على معظم السلع الصينية، تلتها إجراءات انتقامية من الصين بنسبة 125%، ثم اتفاق لخفضها إلى 30% و10% على الترتيب.
وتعكس خطوات ترامب الأخيرة استراتيجية اقتصادية أوسع نطاقًا، قائمة على مبدأ "أمريكا أولاً"، تهدف إلى خفض العجز التجاري وحماية الصناعات الأمريكية من الممارسات التجارية الصينية غير العادلة، بعد أن تضخم العجز التجاري الأمريكي مع الصين من أقل من مليار دولار عام ١٩٨٥ إلى ما يقرب من ٣٠٠ مليار دولار عام ٢٠٢٤.
ويحذر الاتحاد الأوروبي الانجرار إلى المنافسة الثنائية بين واشنطن وبكين. ومع إدراكه للتحديات النظامية التي تشكلها طموحات الصين العالمية، يسعى الاتحاد إلى حماية مصالحه الاقتصادية واستقلاليته الاستراتيجية. في الوقت نفسه، يشعر صانعو السياسات في الاتحاد الأوروبي بالقلق من أن التداعيات المتزايدة للتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين - وخاصةً الطاقة الإنتاجية الفائضة الصينية التي تغمر الأسواق العالمية - قد تضر بالصناعات الأوروبية الرئيسية. وبينما يدعم البعض في بروكسل تعميق التعاون والتقارب مع بكين، يحذّر آخرون من أن هذا قد يضر بقدرة أوروبا التنافسية على المدى الطويل واستقلالها السياسي.
ثاني الاتجاهات المؤثرة على سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه الصين، هو الشكوك المتزايدة بشأن استمرار مشاركة الولايات المتحدة عالميًا، وفي أوروبا كضامنٍ لأمنها. ومنذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أثار الاستقطاب الداخلي الأمريكي وتراجع دور الولايات المتحدة العالمي مخاوف الأوروبيين، منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي حول الاهتمام الأمريكي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ وهو ما اعتبره الكثيرون دليلا على أن واشنطن لم تعد ترغب في تركيز استراتيجيتها الكبرى على أوروبا والشرق الأوسط.
ثم جاءت ولاية ترامب الثانية لتقلص بسرعةٍ المشاركة الأمريكية العالمية، وتشكك في جدوى دعم أوكرانيا، وتسعى إلى التقارب مع روسيا، وفرضت رسومًا جمركية بنسبة 25% على واردات أمريكا من السيارات والصلب والألومنيوم من الاتحاد الأوروبي و10% على باقي الواردات تقريبا. وقد عمّقت هذه الخطوات الخلافات السياسية والاقتصادية والأمنية بين واشنطن وبروكسل، مما استدعى إعادة تقييم استراتيجي للتحالف عبر الأطلسي في أوروبا.
وثالث الاتجاهات كان الحرب الروسية ضد أوكرانيا التي زعزعت بنية الأمن في أوروبا، حيث كانت أول هجوم مباشر على النظام الأوروبي بعد الحرب الباردة والمبادئ الأساسية للسلام الدولي والسيادة والديمقراطية. بالنسبة للأوروبيين، وكشفت هذه الحرب عن وجود قوة عدوانية مستبدة على أعتابهم، كما أكدت هشاشة البنية الأمنية الحالية.
أثار دعم بكين السياسي والاقتصادي لموسكو قلق صناع السياسات الأوروبيين، وسلط الضوء على دور الصين المتنامي كداعم استراتيجي للحرب الروسية. وقد وفّر دعم بكين الاقتصادي والسياسي، القائم على الشراكة "اللامحدودة" التي تم توقعيها قبل أيام قليلة من الحرب ضد أوكرانيا، طوق نجاة لموسكو، مما قوّض فعالية العقوبات الغربية ضدها.
أما رابع الاتجاهات فيتمثل في أن التحدي الاقتصادي والتكنولوجي المتنامي للصين أصبح يمثل تهديدًا كبيرًا للأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي. فقد أدى التوسع العالمي للصين بقيادة الدولة والذي يتميز بتقديم الدعم للشركات الصينية وفرض قيود على دخول الشركات الأجنبية إلى السوق وإجبارها على نقل التكنولوجيا إلى الصين، إلى تقويض المنافسة العادلة وإرهاق صناعات الاتحاد الأوروبي. وردًا على تباطؤها الاقتصادي، زادت الصين من تصدير الطاقة الإنتاجية الفائضة لديها إلى أوروبا، لا سيما في قطاعات مثل معدات الطاقة المتجددة، مما وضع ضغوطًا على قطاعات أوروبية رئيسية. وفي مواجهة هذه الحقائق مازالت الدول الأوروبية منقسمة بشأن كيفية التعامل مع الصين.
وفي ختام تحليلهما أكدت فالبونا زينيلي وزولتان فيير أن الصين الشيوعية هي المستفيد الأكبر من الخلاف عبر الأطلسي وتراجع النظام الدولي الليبرالي، وأن أوروبا والعالم يحتاجان إلى مشاركة أمريكا أكثر من أي وقت مضى إذا أرادت منع الصين من الإضرار أكثر بالقدرة التنافسية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن تحويل النظام العالمي إلى صورتها السلطوية.