في عالم يتسابق فيه الجميع نحو المستقبل، قد تبدو معارك التقدم وكأنها تُحسم في ميادين الاقتصاد والسياسة والعلم، لكن الحقيقة الأعمق تكمن في مكان أبسط وأكثر خفاءً: رحم الأم. هنا، تتكوّن أول خيوط معركة الأمن القومي، حيث يضع الجنين "شفرته الصحية" التي تحدد ليس فقط عمره الفردي، بل أيضًا قوة أمته لعقود قادمة.
برمجة الجنين (Fetal Programming) لم تعد ترفًا علميًا أو مصطلحًا يردده الباحثون في المؤتمرات الطبية، بل صارت حقيقة سياسية واقتصادية تمس حاضر الدول ومستقبلها. ما تتعرض له الأم من تغذية ورعاية صحية وبيئة نظيفة واستقرار نفسي ليس شأنًا فرديًا، بل استثمار استراتيجي في رأس المال البشري. الجنين الذي يُبرمج صحيًا اليوم قد يصبح غدًا عالمًا يضيف للمعرفة، أو قائدًا يصنع قرارًا، أو عاملًا منتجًا يرفع اقتصاد وطنه.
التجربة الهولندية في شتاء 1944–1945 تقدم درسًا قاسيًا للعالم، حين عاشت البلاد مجاعة مدمّرة. وُلد جيل كان من المفترض أن يكون أضعف صحيًا، لكنه خرج بعد عقود أكثر عرضة لأمراض العصر: السمنة، السكري، وضغط الدم. لقد بُرمجت أجسادهم على التكيف مع الندرة، فلما واجهوا الوفرة كان الثمن أمراضًا مزمنة أنهكت الأفراد واستنزفت الدولة. هذه القصة ليست مجرد محطة في تاريخ أوروبا، بل رسالة مباشرة لكل دولة تغفل عن صحة أمهاتها وأجنّتها: من يترك "برمجة الجنين" للصدفة، يدفع لاحقًا الثمن مضاعفًا في ميزانيات الصحة والتعليم والإنتاج.
في مصر، حيث يشكل الشباب غالبية المجتمع، تصبح برمجة الجنين قضية أمن قومي بامتياز. طفل يولد سليم الجسد والعقل يعني استثمارًا ناجحًا للدولة: قوة عاملة قادرة، عقول مبدعة، وأجيال قادرة على المنافسة عالميًا. أما طفل يولد ضعيف المناعة أو منخفض القدرات العقلية، فهو تكلفة علاجية وتعليمية واقتصادية متواصلة ترهق ميزانية الدولة وتضعف مناعتها الوطنية.
ومن هنا يكتسب المشروع الوطني لبناء الجمهورية الجديدة أهميته، إذ وضعت القيادة السياسية "الإنسان" في قلب معادلة التنمية باعتباره الثروة الحقيقية للوطن. فالتنمية لا تُقاس فقط بالمشروعات الاقتصادية أو بالبنية التحتية، بل بقدرة الدولة على صناعة أجيال قوية، متعلمة، قادرة على المنافسة والإبداع. ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية ربط قضية "برمجة الجنين" برؤية مصر للمستقبل، باعتبارها ركيزة استراتيجية لصناعة رأس المال البشري.
لقد أكد الرئيس السيسي مرارًا أن بناء الإنسان هو التحدي الأكبر للدولة المصرية، وأن الاستثمار في الصحة والتعليم هو السبيل لتحقيق النهضة الشاملة. ويأتي الاهتمام بصحة الأم والجنين كخط الدفاع الأول في هذه المعركة؛ فالجنين الذي يُبرمج صحيًا منذ اللحظة الأولى للحمل، يخرج إلى الحياة أكثر استعدادًا للتعلم، وأكثر قدرة على الإنتاج، وأقل عرضة للأمراض المزمنة التي تستنزف ميزانية الدولة.
من هنا، تصبح سياسات صحة الأم والجنين ليست مجرد برامج قطاع صحي، بل أدوات سياسية لضمان أمن مصر واستقرارها لعقود مقبلة.
إن برمجة الجنين ليست شأنًا طبيًا منعزلًا عن سياسات الدولة، بل هي "كود الأمن القومي" الذي يُكتب في رحم كل أم مصرية. وإذا أردنا مصر قوية، قادرة على المنافسة، مزدهرة بشبابها وعقولها، فعلينا أن نبدأ من هنا: من رحم الأم، ومن الاستثمار في صحة الجنين. فالأم التي نحميها اليوم هي التي تُنجب لنا الغد، والجنين الذي نرعاه اليوم هو الذي سيحمل راية مصر عاليًا بين الأمم.
- الكاتب: مستشار وزير الصحة وأستاذ النساء والتوليد بطب قصر العيني